السبت، 12 يونيو 2010

لم نعد نحتاج الى مقاومة !


بقلم مختار الدبابي*
لا شك أن مؤتمر دعم المقاومة الذي احتضنته بيروت منذ أسابيع قليلة قد أثار الحماس لدى فئات واسعة من الأمة التي ما تزال تنتظر فارسا يأتي من الشرق ليخلّصها من أزماتها، ولا شك أن هذا الحماس ازداد لهيبا مع تصريحات أمين عام حزب الله حسن نصر الله الذي وعد بتغيير وجه المنطقة وإزالة إسرائيل من الوجود في أول مواجهة مستقبلية تحدث معها..
وفي مقابل هذا الحماس العارم لم تعد أصوات الشك ترتفع داخل منظومة الحالمين بمقاومة تُغيّر تاريخنا من حال كلها هزائم إلى عالم افتراضي مليء بالانتصارات؛ لا أحد سأل متى تُنجز هذه المقاومة نصرها خاصة أن الأمة تخوض معارك الوجود منذ 60 عاما ورفعت خلالها كل الشعارات الوطنية والقومية واليسارية والإسلامية وقدمت آلاف الشهداء والأسرى والمنفيين، وما تزال تراوح مكانها بل وتسير من سيّئ إلى أسوأ؟
هل تنتظر المقاومة 60 عاما أخرى لتحررنا أم تنتظر شعارات راديكالية لم تولد بعدُ ودول "ممانعة" و"صمود وتصد" لم تتشكل بعدُ لتأخذ بأيدينا إلى التحرير؟
إن هذه الأسئلة الإنكارية لا تروم التبرؤ من المقاومة فعلا تُدافع به الأمة عن وجودها ومصالحها، لكنها تروم التنبيه على وجود أزمة ما في ظل استغراقنا طيلة 60 عاما في الشعارات المبشّرة بالنصر وإلقاء خصومنا في البحر.. دون أن يتحقق سوى فيض الكلام.
ملأنا الدنيا كلاما طويلا عريضا عن نصر لم يأت بل فقدنا تباعا أراضي جديدة وصار العدو يتحكم في حياتنا وأمننا وفرض على بعضنا اتفاقيات علنية وسرية تُلزمه بالاستشارة في كل صغيرة وكبيرة وانقلبت جبهة الصمود والتصدي من محاصرة إسرائيل إلى محاصرة غزة والتهديد بقتل أهلها جوعا وقنصا.
في العراق لم يعد التحرير/ المقاومة فعلا موجّها ضد الاحتلال الأمريكي، بل ضد إيران و"القاعدة" وانصب جهد عربي رسمي على جعل العراقيين يتفاعلون مع الاحتلال الأمريكي ويسهلون انسحابه إلى القواعد التي تجعل بلدهم وجيرانهم في دول الخليج تحت رحمة القنص الجوي.
والمفارقة أن دوائر عربية تسوق لـ"مصالحة" عراقية داخلية تضع في اعتبارها أن الاحتلال الأمريكي هو الوصي والمستشار والناصح، وأن هناك تنسيقا من دول عربية مؤثّرة لـ"لانفتاح" على المقاومة وإدماجها في العملية السياسية مقابل حلف خفي ضد الدور الإيراني، أي مع الدور الأمريكي !؟
وتبدى هذا "الانفتاح" في دعم صعود علاوي الشيعي "العلماني" ليمثل السنّة ويعبّر عن مشاغلهم وقضاياهم.. ولكنْ من منظور أمريكي بدل المنظور الإيراني الذي يحمله المالكي والصدر والحكيم فيما يلعب الأكراد على الحبال المختلفة..
لقد أوقفت المجموعات المسلّحة المقربة من بعض التيارات السلفية والإخوانية والبعثية إطلاق النار واستهداف الاحتلال وأجّلت نشاطها إلى موعد غير معلوم.. من أجل ماذا؟ من أجل التثبت من وصول علاوي "الخيار الأمريكي" إلى سدة الحكم بدل المالكي!وهكذا ضاع جهد التحرير بين التحالفات الواهية وضيف الأفق السياسي وانعدام الفكر الاستراتيجي الذي يوجّه الفعل المقاوم الاتجاه الصحيح الذي يستهدف الاحتلال الأكبر ليتفرغ إلى المحتل الثانوي في ما بعد..
ألم يحن الوقت لنعيد تقييم شعاراتنا وأولوياتنا؟إذا كنّا نقاوم وهذه حالنا، فلماذا نقاوم، وهل هذه مقاومة أم لعب في الوقت الضائع، وهل المقاومة المسلحة هي الشكل الوحيد لدفاع الأمة عن وجودها ومصالحها؟وانطلاقا من أن إدراكنا لمكاننا هو الذي يشكل نظرتنا إلى أنفسنا أكثر مما يحدث بالفعل من حولنا، فإننا ارتأينا أن نجترئ على الخوض في قضية مستشكلة.. إنها قضية المقاومة التي لا يأتيها الشك والسؤال من أي اتجاه.
هناك حقيقة تاريخية مفادها أن إسرائيل هي التعبيرة العسكرية عن قوة الحضارة الغربية وقد تأسست لتكون شوكة في قلب الأمة تمنعها من أي محاولة نهوض وتعطّلها ما استطاعت من خلال فتح جبهات وإثارة أزمات ترتقي بعضها إلى حروب خاطفة ويغرق البعض الآخر في حالة من الحرب الباردة أو في حركة تفاوض عبثية تعود دائما إلى نقطة الصفر، بمعنى أنها مهمتها تعطيل أو احتجاز لحظة النهوض.
ونود التوضيح هنا أنه وعلى خلاف المصادرة التي نسمعها هنا وهناك، التي تتحدث عن تحكم اللوبي الصهيوني في السياسات الدولية، فإن إسرائيل باعتقادنا لا تعدو أن تكون ضحية ساذجة ومغفّلة، ذلك أن البريطانيين ومن بعدهم الأمريكيون استغلوا تديّن اليهود وحماسهم وحنينهم وجمعوهم من أقطار شتى وقذفوا بهم في قلب معركة لا أمل في توقفها، ليدفعوا فاتورة الجشع الاستعماري تماما مثلما يدفعها الفلسطينيون منذ 60 عاما أو يزيد..
فالحرب هنا حرب بالوكالة نجح مشعلوها في الاستعانة بالتوهّج الديني لخلق بؤرة توتّر مفتوحة خاصة أن القدس هي ملتقى الأديان وكل فئة أو طائفة تؤمن أنها مدينتها المقدسة، ونؤكد أن المحرقة الحقيقية التي ترتكب بحق اليهود هي المؤامرة التي لعبت بعواطفهم ودفعت بهم إلى حرب مفتوحة على المجهول، وهي ذات المحرقة التي يصطلي بنارها الفلسطينيون مع فرق جوهري أن الفلسطينيين هم أصحاب الأرض والحرب فرضت عليهم فيما اليهود "اختاروا" أن يدخلوا المحرقة بأرجلهم يتحكم فيهم التضليل الرأسمالي المالي والإعلامي.
وما دامت إسرائيل تكونت لإلهاء العرب وتتلقى الدعم الغربي الكامل دون توقف وبشكل علني ومكشوف "فهذا نائب الرئيس الأمريكي جو بايدين يصرح منذ أيام أن بلاده تفكّر في مصلحة الإسرائيليين أكثر من الإسرائيليين أنفسهم"، فإن المقاومة التي تنتصر عليها يجب أن تكون معبّرة عن أمة ذات حضارة متقدمة علميا واقتصاديا وثقافيا وتستطيع أن تستقل بذاتها عن المساعدات المشروطة والخدمات المشبوهة التي تسديها مجموعات بلاك ووتر الموجودة في أكثر من بلد عربي تحت مسميات متعددة وتتولى حماية بعض الأنظمة الآيلة للسقوط التلقائي.
بالتأكيد هناك من يحاجج بأن المقاومة موجودة وقوية وستنتصر قريبا بحول الله، وأن الكلام الذي نكتبه هو نوع من التهوين والتنظير للاستسلام ودليلهم أن حزب الله حقق النصر في لبنان وهو يرهب إسرائيل صباح مساء وأن تصريحات القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية خير شاهد على ذلك، كما أن حماس حركة مقاومة قدمت الشهداء، وهي تصابر وترابط رغم المؤامرات العربية، وهناك حلف للمانعة يتسع يوما عن آخر وتسانده تيارات عربية تؤمن بالمقاومة والتحرير!
وللرد على هذه الفرضية التي من المرجح أن يتبناها بعض من يقرؤون هذا النص بحماس، نقول إن الشهداء الذين سقطوا في فعل مقاوم داخل فلسطين، على وجه الخصوص، لا يرقى إلينا شك في صدقهم وانتمائهم، والشهادة، هنا، مبادرة فردية محدودة لكنها لا تحرر فلسطين ولا تعيد للأمة وزنا ولا منزلة.
أما حماس التي أعطت إيحاء في سنوات انطلاقتها الأولى بأنها حركة مقاومة تتجاوز أخطاء التنظيمات الايديولوجية الفلسطينية، التي كانت ترفع السلاح ثم سحبته نهائيا، فقد قدمت التكتيكي على الاستراتيجي وحالت طبيعتها الإخوانية التي تغرق في الحسابات والتردد والجبن دون أن تجعلها حركة تحرر معبّرة عن حاجة الأمة.
ومن صور الحسابات التي أغرقت حماس وأثّرت شديدا على القضية الفلسطينية انخراطها في ديمقراطية أوسلو وإصرارها على حكم غزة باسم شرعية الانتخابات في ظل الاحتلال، لتضفي شرعية على خيار أوسلو وتعطي المشروعية للاحتلال الإسرائيلي ليحاصر غزة ويتبرّأ من الواجبات التي يفرضها عليه القانوني الدولية كدولة احتلال.
كما أعطت حماس بعلاقاتها الغامضة مبررا لدول عربية تعارض المقاومة خيارا في تحرير فلسطين وترتهن لمشروع أوسلو خوفا من الولايات المتحدة وإسرائيل ورهانا على المساعدات المشروطة راهنا والتوريث مستقبلا، أعطتها الفرصة كي تحمل عليها كحركة إخوانية وتشوّه صورتها وتمنع التضامن العربي عنها فضلا عن الدعم المالي الذي ذهب إلى مجموعات أوسلو داخل السلطة الفلسطينية.
دون أن ننسى أن غياب المسافة بين الديني والوطني في تفكير حماس جعلها تعجز عن خلق تحالفات استراتيجية مع قوى وفصائل فلسطينية تحمل بقايا تفكير وطني علماني ماركسي وتفشل في تثوير منظمة التحرير وإعادتها إلى ساحة الفعل الإيجابي.. هذا دون اعتبار أن حماس لا تحمل مشروعا فكريا وحضاريا للتحرير.
أما حزب الله ورغم النتائج الكبيرة التي حققها على الأرض في مواجهة إسرائيل، فيحتاج انتماؤه للقضايا العربية إلى نقاش واسع، فما زلنا نتذكر تصريح السيد حسن نصر الله وهو يلقي خطاب النصر كيف أنه أهدى النصر إلى "قائده" و"سيده" و"مرجعيته" في طهران.
وما زلنا نزعم أن حزب الله ورقة إيرانية متقدمة في مواجهة المشاريع الأمريكية مثله في ذلك مثل الحوثيين في اليمن ومجموعات شيعية في طور التشكل بدول الخليج "السعودية والبحرين أساسا"، ومع أننا ننحاز لكل من يقف ضد المشروع الأمريكي باعتباره العدو الاستراتيجي للأمة، فلا يمكن أن ننسى أن إيران وضعت اليد في اليد الأمريكية في احتلال العراق وتنسّق معها في ملفات أخرى على حساب المصلحة العليا لأمتنا.
ومن يمنع أن يأتمر حزب الله بتعليمات إيران ويلغي الخيار العسكري إذا ما نجحت مساعي طهران في الحصول على قسمة متوازنة و"عادلة" للكعكة العراقية، ثم هل نقدر على اعتباره حزب الله حركة مقاومة وهو الذي لم نسمع منه أيام العدوان الإسرائيلي على غزة غير الوعود والشعارات تماما مثل بكائيات الأنظمة العربية في قمة الدوحة؟أين الصواريخ التي يقول الحزب ونصر الله دائما إنها قادرة على دك مدن وقرى الشمال الفلسطيني الواقع تحت السطوة الصهيونية؟
ومع أننا نعارض محاولات محاصرة هذه الحزب وقصقصة جوانحه، فإننا لا ننظر بتفاؤل إلى اعتباره حركة مقاومة بل هو أقرب إلى المجموعة الدينية المسلحة التي ترتبط بأوامر خارجية وتعمل على تحقيق أهداف استراتيجية لأمة نختلف معها في الأهداف وإن تقاطعت المصالح أحيانا، ولا يمكن أن نقيم معها "تحالفا للممانعة" حتى وإنْ زعمنا أو حرصنا على أن نحمل آمالا كبيرة على حلف افتراضي.