الأحد، 10 يونيو 2012

زيارة نجاد... رسالة إيرانية إلى دول الخليج وليس فقط إلى الإمارات

 مختار الدبابي





جاء الموقف الإماراتي قويا وحاسما من الزيارة الاستفزازية التي أجراها أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى، وهذا الحسم ليس فقط نابعا من القناعة بالحق في السيادة على الجزر التي تحتلها إيران وإنما هو، أيضا، وليد قراءة دقيقة للنوايا الإيرانية التي تتخفى وراء هذه الزيارة.



فالصراع بين الإمارات وإيران حول الجزر ليس جديدا والاستفزازات الإيرانية تتكرر بين فترة وأخرى، لكن زيارة نجاد أثارت الحنق الإماراتي لأنها تتنزل في سياق سياسة عامة تحاول تصدير الأزمة عبر افتعال مشاكل هامشية، وليس خافيا على احد أن إيران تعيش ظروفا داخلية صعبة خاصة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بفعل العقوبات المفروضة عليها من الدول الغربية.



وهي عقوبات تهدد بأزمة خانقة في المواد التموينية والطبية، على وجه الخصوص، إضافة إلى تدني قيمة العملة المحلية ما يخلق أرضية خصبة للتضخم وارتفاع جنوني للأسعار.



يضاف إلى هذا حالة التململ السياسي والمذهبي والديني نتيجة القبضة الأمنية التي تقمع حرية الفكر وتراقب الانترنت وتزج بالخصوم في السجون، وهذا ما يفسر تجدد المظاهرات الاحتجاجية وتحديها للقمع الأمني، والمفارق، هنا، أن جزءا هاما من هؤلاء المحتجين هم أبناء قيادات فاعلة في ثورة 1979 ومن الجيل الذي فتح عينيه على شعاراتها ووعودها واكتوى بنار فشلها.



ولا شك أن العقوبات الغربية جعلت القيادة الإيرانية تتصرف تصرف اليائس الذي لا يدري ما يفعل ويحاول أن يلهي شعبه بقضايا خارجية عسى أن تغيّر من صورتها المهتزة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لكن الذي لا يدركه نجاد، أو هو يكابر ويتعامى عنه، أن الإيرانيين ملوا من الشعارات التي تلوح بمواجهة الامبريالية والاستكبار العالمي وتحرير القدس ونصرة آل البيت.. لقد صارت عيونهم مشدودة إلى الخبز ويبحثون عمّن يقاتل الفقر والبطالة لا من يقاتل الجيران.



لقد حاول نجاد أن يخلق محورا هامشيا يلهي الإيرانيين ويخفف من نقد خصومه لسياسته بالداخل والخارج خاصة أن إيران أصبحت على مرمى الصواريخ الغربية لعدم قدرتها على الحوار والمناورة في العلاقة بملفها النووي وفي طمأنة جيرانها.



إن الغرور "الثوري" الذي يتعامل به نجاد مع مطالب المجتمع الدولي ومع مخاوف محيطه العربي والإسلامي من هرولة إيران إلى التسلح التقليدي والنووي جلب لها مشاكل كثيرة وآخرها فكرة الدرع الصاروخية التي تحمي الخليجيين من شطحات نجاد ومزايدات أركان السلطة الإيرانية خاصة ما تعلق بالتلويح بإغلاق مضيق هرمز الذي يعتبر بمثابة إعلان حرب مفتوحة على كل المستفيدين من نفط الخليج.



لقد كانت زيارة نجاد رسالة إلى الخليجيين وإلى الدول التي يهمها أمن الخليج وحماية خطوط النفط، وهي دول كثيرة ونافذة، قبل أن تكون رسالة إلى الإمارات، وتعكس الرسالة هروبا إلى الأمام ومحاولة للتصرف بيأس في عملية أشبه ما تكون بالانتحار.



فما معنى أن تلوح القيادة الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، لا شك أنها واعية تماما بأنها تستنسخ تجربة صدام حسين في غزو الكويت وما ترتب عنها من تدخل قوى دولية في الخليج وعسكرته وتطور في ما بعد إلى حصار دام سنوات طويلة ثم انتهى إلى احتلال العراق وخلق حالة جيوسياسية جديدة بالمنطقة لا شك أن إيران أحد المتضررين منها حتى وإنْ تحالفت للإطاحة بصدام وإضعاف العراق.



وإن القراءة الاستشرافية الهادئة تقول إن إيران تقدم نفسها هدية من ذهب للقوى العالمية الكبرى وتسهّل عليهم خطة ضربها وتفتيتها وتعطيهم المبررات الأمنية والسياسية والأخلاقية في ذلك، فضلا عن استعداء جيرانها ودفعهم دفعا لأن يتخوفوا منها وألا يكونوا في صفها.



وفي مقابل الغرور الإيراني ومنطق فرض الأمر الواقع، مثلما يفعل الاستعماريون، فإن الإمارات تعاملت مع قضية جزرها المحتلة بأسلوب هادئ ينم عن خبرة دبلوماسية وعقلانية وبعد نظر، فقد دعت طهران إلى الحوار الثنائي على قاعدة عودة الحق لأصحابه، كما تبنت خيار اللجوء إلى التحكيم الدولي إذا فشل الحوار المتكافئ.



وكبادرة حسن نية على جدية الرهان على خيار الحوار، فحين اتفقت الإمارات وإيران على التهدئة حول قضية الجزر ووقف البيانات، التزمت الإمارات وسحبت الإشارة إلى الجزر من قرارات اجتماعات مجلس التعاون الخليجي واجتماعات جامعة الدول العربية، مثلما جاء في تصريحات لوزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد.



وواضح أن القيادة الإماراتية تريد أن تجر إيران إلى ساحة معقدة وصعبة على من اعتاد المزايدة بالشعارات والتلويح بالمواجهة، فساحة التحكيم الدولي تعني الاحتكام إلى القوانين والمواثيق الدولية وتقديم الحج والبراهين التاريخية وهذا ما لا تمتلكه إيران وتتهرب منه مثلما تتهرب من التفاوض حول محاولات امتلاكها السلاح النووي، "وإذا أثبتت إيران بالوثائق أن الجزر لها فلتأخذها"، كما قال أستاذ العلوم السياسية الإماراتي الدكتور عبدالله عبدالخالق.



ولا بد من الإشارة إلى أن نزوع طهران إلى التصعيد في قضية الجزر ومحاولة توطين إيرانيين فيها لتغيير الخارطة السكانية لأهلها الأصليين، هما رسالة تتجاوز الإمارات والخليج إلى بقية العرب ليفهموا أن الحياد البارد تجاه إيران لن يفيد أحدا.



فهذه دولة تحلم بأن تكون امبراطورية تصدّر ثورتها ليس فقط باتجاه الكويت والسعودية والبحرين واليمن ولبنان حيث توجد مجموعات للشيعة العرب، وإنما نحو مختلف أقطار العرب سواء عبر استقطاب بعض المجموعات السنية المتشددة وإغرائها بالتمويل أو عبر خلق مجموعات شيعية (مثلما يحصل في تونس والجزائر) والرهان عليها في الحصول على موقع قدم.



وبالتأكيد سيكتشف الشيعة العرب يوما أن إيران لم تكن راعيا ولا سندا لهم وأنها وظفتهم في لعبة أكبر منهم، هي لعبة استعادة المجد القومي لبلاد فارس بتوظيف الخطاب الثورة الراديكالي تارة أو الخطاب الطائفي الموغل في التشدد والانغلاق.



وختاما؛ يجب أن يردد العرب ما ردده وزير الخارجية الإماراتي منذ يومين في التعبير عن نفاد الصبر من السلوك السياسي الإيراني، الذي لم يفد معه الود ولا التمدن، حين قال: "لا نستطيع أن نترك الأمر إلى الأبد."



مختار الدبابي



كاتب وإعلامي تونسي



التحالف الحكومي والمعارضة في تونس: الهروب إلى الأمام للتغطية على التناقضات الداخلية




ميدل ايست أونلاين





مختار الدبابي





لم يفهم الكثير من التونسيين سر التصعيد بين حكومة الأحزاب الثلاثة وبين المعارضة، وهناك سؤال يطرح بكل إلحاح بعد المواجهات الحادة التي شهدها يوم التاسع من ابريل/ نيسان الجاري: أي خفايا لمعركة كسر العظم بين النهضة وخصومها؟



هناك مؤشرات على أن هذا التصعيد يعكس ارتباكا من الجانبين ومحاولة للهروب إلى الأمام للتغطية على وضع حزبي عجز عن مواكبة الحالة الديمقراطية بما توفره من فرص للحوار مع الناس وعرض الأفكار والبرامج والسعي لرسم عناصر التميز عن الآخر فكريا وسياسيا.



خلط الأوراق في ساحة تحكمها الفوضى والغموض ليس سوى عمل مرتّب غايته الوصول إلى الانتخابات في ظروف شبيهة بالانتخابات السابقة حيث فضل 48% من التونسيين عدم التصويت لأنهم لم يقدروا على التمييز بين أحزاب فاقت المئة.



والحقيقة التي يعرفها الشارع التونسي، والكثير من المثقفين والفاعلين السياسيين والحقوقيين، أن المعارضة لم تكن لها برامج قبل ثورة 14 يناير، كان برنامجها الوحيد نقد النظام، وحين جاءت الثورة لم تجد هذه الأحزاب إلى غاية انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011 الوقت لتقدم برامج وليدة دراسات معمقة ونقاشات داخلية، عدا أحزاب قليلة قدمت برامج حتى وإنْ كان بعضها متعجلا ومربكا.



وليست البرامج وحدها التي تعوز غالبية الأحزاب الفاعلة، بل هناك أزمات داخلية وخلافات وانشقاقات يتحتم تأجيل صعودها إلى السطح عبر الهروب إلى الأمام واختلاق عدو في هيئة نظام بن علي والدعوة إلى الإطاحة به (بالنسبة إلى المعارضة)، أو تصوير المعارضة كما كان يصورها النظام السابق بكونها خائنة وتمارس التحريض والتآمر لدى السفارات الأجنبية (بالنسبة إلى الحكومة).



وتكفي متابعة الصحف والمواقع الإلكترونية وصفحات شبكات التواصل الاجتماعي لمعرفة أزمات مختلف الأحزاب والخلافات التي تتهددها.



حركة النهضة، التي تتزعم الحكومة وتستفيد من حالة الأزمة المفتوحة ولعبة خلط الأوراق وإغراق الساحة في قضايا هامشية، تكاد تكون التنظيم الوحيد الذي يخلو من الانشقاقات وصراع الأجنحة والزعامات الذي تعجز المؤسسات الداخلية عن تحمله فيخرج إلى الصحف والمقاهي.



فباستثناء انسحاب مجموعة من القيادات التاريخية البارزة (عبدالفتاح مورو وفاضل بلدي وبنعيسى الدمني) في بيان التبرؤ الشهير من حادثة حرق مقر الحزب الحاكم السابق (حادثة باب سويقة 1991) لم تعرف "النهضة" اتشقاقات تذكر.



لكن الأزمة التي يمكن أن تهدد النهضة وتربكها في الانتخابات هي قضية الشريعة، وقد هدأت هذه الأزمة ظرفيا لأن المجموعات الإسلامية من داخل النهضة وخارجها فضلت التوحد في مواجهة تصعيد المعارضة وخطاب المزايدة الذي تنتجه.



لو أن الأوضاع السياسية في البلاد كانت مستقرة، ربما لم تكن هذه الأزمة لتمر دون أن تحدث تصدعات في هذا الجسم الكبير المترامي الأطراف، الذي يجمع بين المتناقضات الفكرية والسياسية، يجمع من يؤمن بعلمانية أردوغان ويطالب باستنساخها، ومدنية عبدالفتاح مورو، وثورية راشد الغنوشي، وسلفية الصادق شورو والحبيب اللوز.



وحين أعلنت النهضة أن الفصل الأول من الدستور يكفي ولا حاجة للتنصيص على اعتبار الشريعة المصدر الوحيد أو مصدرا للتشريع، شهدت صفحات الشبكات الاجتماعية حملات تخوين واستخفاف وخيبة أمل من كون قيادات "النهضة" راعت مزايدات المجموعات العلمانية، وضغوط القوى الخارجية وتخلت عن المبدأ، وراجت تصريحات للقيادي الحبيب اللوز يعلن فيها معارضته للقرار ووصفه كثيرون بسبب ذلك بأنه الرجل المبدئي الذي يجب الاصطفاف وراءه لتبني خيار فرض الشريعة في الدستور.



إن المعارضة التي تسعى للتوتير وخلط الأوراق إنما تعطي الفرصة للنهضة كي تظل متماسكة داخليا وقوية الصلة بمحيطها الإسلامي وتصل إلى الانتخابات في أفضل الظروف، ونورد هنا تصريحا لأحد الشيوخ السلفيين الذين لديهم خلافات نوعية مع النهضة، لكنه يحث على دعمها في مواجهة "العدو" ما يؤكد أن "الساحة الإسلامية" تتقن المناورة وتتجاوز عن الخلافات الثانوية في مواجهة "العدو الاستراتيجي".



يقول الشيخ حسين العبيدي متحدثاً عن التحالف القائم بين فصائل التيار الإسلامي "نحن جيش مصطف متكون من عدة سرايا وكل سرية تحمل راية لا اله إلا الله والسرية الاولى المتمثلة في النهضة تقدمت واعطيناها الراية الكبرى لمواجهة العدو وبقينا نحن كسند لنلتحق بها وكلما تقدمت خطوة وتوغلت في الحكم إلا ونحن ورائها حتى نقيض من الداخل ونحقق التمكين ثم نمتد أما أن نبقى متفرجين ونهاجم بعضنا البعض فليس من الحكمة في شي".



أما شركاء النهضة في الحكومة فيعيشان حالة من الانقسامات، فالمؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه منصف المرزوقي فيعيش خلافات بدأت بالصراع بين قياداته حول قائمة الوزراء الذين يمثلون الحزب في حكومة التحالف، ثم حول الأمانة العامة للمؤتمر بعد استقالة المرزوقي منها لممارسة مهمة رئاسة الجمهورية استجابة لشروط القانون المنظم للسلط الذي أقره المجلس التأسيسي.



أما "التكتل من أجل العمل والحريات" الشريك الثالث في الحكومة فشهد "تمردا" على القيادة ممثلة في رئيس المجلس التأسيسي، والرئيس الاعتباري للحزب، بسبب تحالفها مع "النهضة" في الحكومة و"سكوتها" على التجاوزات التي تمت خاصة ما تعلق بالحريات العامة والخاصة من قبل السلفيين.



واعتبر المعارضون لبن جعفر أن التعامل السلس للحكومة مع المجموعات التي تكفّر السينمائيين والمثقفين وتهدد حقهم في الإبداع الحر إنما هو تغطية عليهم وضوء أخضر كي يواصلوا ما بدأوه وأن سكوت قيادة التكتل ووزرائها في الحكومة يدخل في خانة خيانة القاعدة الحزبية التي اختارتهم لكونهم مدافعين عن حقوق الإبداع وعن الحريات.



وشهد الحزب استقالات هنا وهناك طالت حتى نوابا للحزب في المجلس التأسيسي أبرزهم خميس قسيلة.



أما أحزاب المعارضة فتشهد انشقاقات تكاد تكون يومية رغم حركة التوحيد التي تشهدها الساحة التونسية لأحزاب متقاربة فكريا وسياسيا مثل "الحزب الجمهوري" الذي يمثل الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة عضوي المجلس التأسيس نجيب الشابي ومية الجريبي مركز الثقل فيه.



وبمجرد انتهاء أشغال المؤتمر الخامس للحزب ثم إعلان "التوحيد" في الحزب الجديد حتى شهد "الديمقراطي التقدمي" استقالات بالجملة من قيادات عليا ومتوسطة بسبب عدم رضاها عن التوحيد وخاصة عن أسماء القيادات التي صعدت من الحزب لتكون ممثلة في المؤسسات القيادية للحزب الجديد.



ومن أبرز القيادات التي علقت نشاطها بسبب "ما وقع في المؤتمر الخامس للحزب من تجاوزات وإخلال بالعملية الديمقراطية" تسعة نواب في المجلس التأسيسي يتقدمهم رئيس الكتلة محمد الحامدي.



وفي هذا الإطار أرجع عضو اللجنة المركزية وعضو الأمانة الوطنية للشباب وسيم بوثوري، في تصريح لصحيفة "الصباح" التونسية جذور ما يحدث داخل الحزب إلى فترة ما بعد الانتخابات قائلا "بعد هزيمة 23 أكتوبر 2011 (في الانتخابات) اجتمعت اللجنة المركزية للحزب وصادقت على تقرير يشخص أسباب الهزيمة ويحدد آليات الإصلاح داخل الحزب وانطلاقا من هذا التقرير بدا يتشكل تيار إصلاحي ينادى بضرورة تحديد آليات اتخاذ القرار وترشيد اتخاذ المواقف السياسية وتم الاتفاق على أن يكون المؤتمر القادم للتقدمي فرصة للإصلاح غير انه وخلافا لما وقع الاتفاق حوله فقد سبقت أشغال المؤتمر حملة تشويه استهدفت رموز التيار الإصلاحي."



ولا يقف الأمر عند الأحزاب المصنفة كبيرة من حيث عدد منخرطيها وتمثيليتها في المجلس التأسيسي، بل يمتد إلى مختلف الأحزاب الصغيرة الأخرى التي تتكون من عشرات المنخرطين ثم تتشظى سريعا لخلاف بين الشخصيات المؤسسة لها، ومنها ما اختفى لتوقف التمويل خاصة من رجال أعمال راهنوا على أن يجدوا لهم موطئ قدم في التأسيسي وحين فشلت الأحزاب التي أسسوها أو دعموها سحبوا التمويل.



والسؤال الذي يطرح في الساحة التونسية الآن، هل تنجح محاولات التوحيد التي بدأت خلال الأسابيع الأخيرة في إنقاذ الأحزاب ومن ثمة في إرساء التوازن بالساحة السياسية التي تبدو فيها "النهضة" اللاعب القوي والمنظم؟



الإجابة تكون بالإيجاب طبعا، لكن صعوبة تحقق هذا التوحيد يجعل المسألة معلقة بانتظار قدرة بعض الأحزاب والزعامات على تقديم التنازلات المؤلمة التي تقوي تياراتهم ولو تطلب الأمر إعلان الانسحاب الشخصي من الحياة السياسية أو رفض الترشح خاصة في الانتخابات الرئاسية.



الحديث عن توحيد أحزاب الوسط مطلب مهم لأطياف سياسية وحقوقية وإعلامية على أمل أن يرتقي إلى مستوى يكون فيه قوة توازن مع "النهضة" والمجموعات التي تدعمها، لكن أي وسط ومن يتحالف مع من؟



فالقوة الصاعدة الآن في "تيار الوسط" هي قوة المجموعات التي تريد أن تستظل بالظل البورقيبي، والتي يقودها رئيس الوزراء المتخلي الباجي قائد السبسي، وهي مجموعات تحاول الاستفادة من ارتباك الحكومة الحالية وقلة خبرتها ومن مخاوف دوائر حقوقية ورجال أعمال وفئات شعبية على مكاسبهم في ظلها.



قوة هذا القطب ليس في رهانه على الإرث البورقيبي وإنما في تجميع الغاضبين على حكومة النهضة، وخاصة الغاضبين على الثورة، ممن كانوا في الحزب الحاكم السابق أو المستفيدين منه والذين يتخوفون من فتح ملفات المحاسبة وكسر احتكارهم لبعض القطاعات والخدمات، يضاف إليهم جزء من التونسيين أصبح مقتنعا بأن الأحزاب الأيديولوجية لا تقدر على بناء الدولة وإدارتها وأن عودة "البورقيبيين" أهون الشرين.



قطب الباجي قائد السبسي يلقى دعما من أحزاب وسط اليسار (الذي يبحث له عن دور ما في هذا القطب) والجمعيات الحقوقية والمدنية والنقابية الغاضبة من طريقة إدارة "النهضة" للدولة وتخوفها على "قيم الحداثة" والمكتسبات المدنية بالبلاد، وتخوفها من أن تحقق الحكومة بعض النجاح فتستمر في السلطة بعد الانتخابات، كما تلقى "البورقيبة" دعما كبيرا من قطاع الإعلام الذي لوحظ فيه احتفاء خاص بمبادرة السبسي وبشخصيات شريكة له في السعي لاستعادة مجد "البورقيبية".



لكن الحكومة الحالية قد تضع منغصات أمام هذا الصعود البورقيبي من خلال سن قانون يمنع على من تحملوا مسؤوليات في الحزب الحاكم السابق الترشح للانتخابات، وهو ما يتم الترويج له إعلاميا وسياسيا من أنصار الأحزاب المشكلة للحكومة.



وعموما، فإن الأحزاب الذكية هي التي تربط مصيرها بالمواطن وتقترب منه فتعرف بنفسها وتقدم له رؤيتها للحلول أما حصر الصراع في دائرة الشعارات وتصفية الحسابات بين الفرقاء فيزيد من عزلة الأحزاب ويباعد بينها وبين القواعد الانتخابية الباحثة عن الاستقرار الأمني قبل الخبز في أحيان كثيرة.



مختار الدبابي



كاتب وإعلامي تونسي

الثورة نكأت جروح المعارضة التونسية.. اليسار يترنّح والقوميون تائهون



النهضة بين السلفية و المدنية

لم تهتز الأنظمة وحدها في الثورات التي شهدتها بعض الأقطار العربية، بل امتد لهيب النار إلى المعارضات بمختلف مشاربها لتجد نفسها في مواجهة وضع تهربت منه طويلا، وهو المشاركة في السلطة وترك مقعد المعارضة لأشخاص آخرين بعد أن ظلت عقودا كثيرة بمهمة واحدة تقتات منها، وهي تسقّط أخبار الأنظمة وأخطائها والتشهير بها.



التونسيون يتطلعون الى انتخابات ترسم مستقبل البلاد

في ظاهر الصورة، تجد المعارضات في تونس ومصر، مثلا، في حالة استبشار بما جرى، لكن في ما وراء الصورة ثمة إحساس كبير بالخوف من تغير الدور والمهمات.. لقد كان تحبير البيانات أمرا سهلا ومريحا ونتائجه مضمونة في استقطاب الناس وتحويل قيادات الأحزاب إلى رموز وطنية.

أما الآن فالمطلوب تقديم الفعل على الكلام، والبرهنة بالمشاريع والأفكار على أن المعارضات هي فعلا البديل الحقيقي لأنظمة الاستبداد والفساد التي تركت بلدانها قاعا صفصفا.



ورغم أن معارضاتنا إلى الآن تواصل مهمتها القديمة في جلد الأنظمة وتوسع قائمة أنصارها والمتعاطفين معها بالنبش في سجلات من سقط من الحكام وفضائح أسرهم وحاشيتهم، فإن لحظة الحقيقة الجديدة ستكون مع الانتخابات التي تفترض من الأحزاب أن تقدم أفكارها وبدائلها لإنقاذ البلاد من حالة الفوضى والتأسيس لمرحلة الاستقرار.

جلد الأنظمة لن يكون ذا جدوى لأن الأحزاب التي كانت تسندهم تم حلها، كما في تونس، أو هي في طريق الحل القانوني والشعبي كما في مصر، والمنافسون في الانتخابات لديهم قصص وحكايات مع القمع والسجن وإنْ بدرجات متفاوتة.



ومرد الإحساس بالخوف لدى أحزابنا العربية هو أنها ظلت نصف قرن أو يزيد وهي تتكلم وتستعيد نفس الخطاب والمفردات التي تصلح لكل زمان ومكان من دون أن تختبرها ولو لحظة في الواقع العملي بما في ذلك داخل تنظيماتها. فالديمقراطية مثلا التي يتبناها الجميع في خطابهم التبشيري اليومي ليس هناك مؤشرات على أنها تطبق في الداخل، ذلك أن قيادات أغلب الأحزاب العربية تحتكر الرئاسة والأمانة العامة والمكاتب السياسية والتنفيذية منذ عقود وتعلل هذه الاستمرارية بالحصار والتضييق والمطاردة، وهي تنافس الأنظمة في ما تتهمها به كالديمقراطية الشكلية والرئاسة مدى الحياة وظاهرة التوريث.





راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة

والتوريث لدى المعارضة ليس توريث الأبناء وإنما توريث المريدين والمقربين للرئيس أو الزعيم التاريخي، وهو ما يفسر سرعة الانشقاق والتشظي وتكوين أحزاب صغيرة تستجيب لكاريزما الأشخاص، وهذا يحدث خاصة في الأحزاب اليسارية العربية.



ومن حسن الحظ، أو ربما من سوئه، بالنسبة إلى الأحزاب العربية أن استثمار نتائج الثورات لم ينته إلى انقلاب عسكري أو أمني يعيد إنتاج الديكتاتورية، وإنما انتهت اللعبة بين مختلف المتدخلين إلى القبول بتجربة الانتقال الديمقراطي والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

الانتقال الديمقراطي يعني بداهة تقييم حجم الأحزاب بمختلف عائلاتها الفكرية والأيديولوجية الكبرى، واختبار قدرتها على التلاؤم، ولو على مستوى الخطاب، مع انتظار الشارع، أو المناورة في إقناعه بأنها الأقرب إلى تحقيق مطالبه في النهوض.



لقد حققت الثورة التونسية الفرصة للجميع كي يلتقوا بالناس من دون خوف أو مطاردة وسحبت عنهم رداء المظلومية والتباكي من القمع، وليس أمام الأحزاب إلا أن تستثمر الفرصة كي تخرج من دائرة الكتب والدفاتر القديمة وتتحول إلى أدوات للتغيير المجتمعي تحت أعين الناس.

وسنأخذ، هنا، حالة المشهد التونسي مجالا لقياس استعداد الأحزاب للمساهمة في مرحلة الاشتراك بالسلطة سواء من بوابة الحكم أو عبر بوابة المعارضة.



الإسلاميون وصدمة السلطة على طبق

في تونس، كما في مصر وليبيا واليمن وسوريا، تضع استطلاعات الرأي وتحاليل الخبراء الإسلاميين في مقدمة من سيختارهم الشعب في أي انتخابات تتحقق فيها النزاهة والشفافية، لكن هذه الحظوة يمكن أن تنقلب إلى عامل خوف يقض مضاجع قياداتهم من سلطة تأتيهم على طبق من فضة.

مختلف الاستطلاعات التي تسبق انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس (23 أكتوبر 2011) تضع حركة النهضة في مقدمة الفائزين رغم أن القانون الانتخابي وضع أمامها عقبات كبيرة لتحول دونها والحصول على الأغلبية، وقد صادقت عليه من دون احتجاج بل شجعت بعض حلفائها على القبول به.





نشاط لافت لحزب التحرير في تونس

والسرّ في الحكاية أن القانون الانتخابي سيحول دون توريطها في الحكم لوحدها وهو يفترض وجوبا وجود “توافق” أو “تحالف” ما لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو اتخاذ أي قرار مستقبلي، وهكذا تهربت النهضة علنا من السلطة رغم تناقض هذا الموقف مع موقف شهير وصادم لزعيمها التاريخي الشيخ راشد الغنوشي.

يقول الغنوشي في نقد خفي للموقف الغالب في مؤسسات النهضة ولدى قيادتها البراجماتية “على الحركة الإسلامية أن تغادر مواقع الحذر والانكماش مما ورثته من عهود القمع المديدة المؤلمة وأن تفتح أعينها على العالم الجديد وأن تنخرط في أمواج شباب الثورة وتمضي معه بدل أن تعيقه بهواجسها”.



ويضيف الرئيس الحالي لـ”النهضة” الذي وعد بترك هذا المنصب خلال المؤتمر القادم للحركة محددا موقع الحركات الإسلامية وفي قلبها “النهضة”: “عليها أن لا تشارك بأي وجه في تزييف إرادة الشعب ولو بتحجيم نفسها عمدا فذلك شكل آخر من صور التزييف. كل حزب في العالم يخوض معاركه الانتخابية بقصد تحقيق أعلى مستويات النجاح إلا الحركة الاسلامية العربية فتبدو – بأثر الماضي الأليم- مرتعبة من النجاح ، تحجّم نفسها وتصّاغر… (إنه) أمر مؤسف. ليترك الشيوخ المنهكون مواقعهم للشباب يمضون بالثورات الى منتهاها بلا زيف ولا تصاغر في ضرب من قتل النفس”.



وفضل الغنوشي المفكر على “النهضة البراجماتية” أنه أزاح عنها الحرج ودفعها إلى مغادرة منطقة المنزلة بين المنزلتين في قضية مصيرية بالنسبة إلى تونس، وهي قضية الحزب الذي يحتكر الكلام والإفتاء والتأويل باسم الدين، وذلك بتبني التحول إلى حزب مدني ذي خلفية إسلامية على شاكلة حزب العدالة والتنمية في تركيا.

والأمر يعني، هنا، تأجيل الحديث عن تطبيق الشريعة و”أسلمة المجتمع” والنهوض بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتخاذ موقف اجتهادي صادم في قضية تعدد الزوجات، وهذا يدخل في سياق المقاربة التي أسس لها الغنوشي، وهي أن الأولوية تكون لإقامة دولة الحريات وليس دولة الشريعة.



لكن النهضة التي تتكون معظم قيادتها من مهندسين وأطباء وجامعيين في اختصاصات علمية لا تهتم كثيرا لهذه المسائل، وهي تناور لتكون فضاء جامعا لـ”النهضة السلفية” التي يمثلها بعض الشيوخ التاريخيين والأئمة والشباب الذين تتلمذوا على الفضائيات الدينية ولـ”النهضة المدنية” التي تتبنى القبول بحرية الرأي والمعتقد والحريات الشخصية، وهي مدعوة إلى أن تقبل فرضية نقد الدين والمس من المقدسات في وسائل الإعلام المخالفة، وأن تتحمل وجود اللباس المتحرر، والإفطار في رمضان، وظهور التبشير إلى العلن.

ونتوقع أن تنشطر “النهضة” إلى “نهضتين” بعد الانتخابات التي وحدت الصفوف في مواجهة “يسار حاقد” و”علمانية استئصالية”.





السلفيون.. استعراض للقوة

*نهضة أولى سلفية، أو لنقل إسلامية، تدافع عن تطبيق الشريعة وتتحالف مع التيار السلفي الصاعد بقوة رغم تواضع آلياته الفكرية والحجاجية، ومع حزب التحرير الذي يتبنى القراءة الحرفية للنصوص ويضع هدفه الاستراتيجي إقامة الخلافة، ومع مجموعة “الدعوة والتبليغ”، وتكوين حلف محافظ.

*ونهضة ثانية مدنية ستتحالف آليا مع اليسار الإسلامي (المنضوي راهنا تحت حزب الإصلاح والتنمية) ومع قطاع واسع من المستقلين الإسلاميين الذين يمثلون ثقلا كبيرا في الساحة ونشط الكثير منهم في النهضة ثم خرج عنها لأسباب عدة أهمها غياب الديمقراطية الداخلية، وتهميش المقاربات الفكرية والثقافية، وخاصة محاولة إرضاء الأفكار المتناقضة داخلها بمواقف غامضة تحتمل التأويل ونقيضه، بالإضافة إلى تحالفات ممكنة مع قوى ليبرالية ووطنية غير أيديولوجية.



ولا شك أن “النهضة المدنية” ستجد سندا لدى شرائح واسعة من الشارع التونسي المتدين ولكن بمواصفات مذهبية وسطية ومنفتحة على الآخر، ثم بمواصفات شارع يريد أن يعيش في أجواء ليبرالية لا تُحصي عليه أنفاسه وتتدخل في تفاصيل حياته، وهذا الشارع باعتقادنا هو الذي يمثل 60 في المائة من التونسيين الذين لم يحسموا أمرهم في التصويت لأي طرف أياما قليلة قبل الانتخابات.



وبالخلاصة، فإن التيار الإسلامي ذا الحضور الشعبي الكبير حتى وإنْ تحالف داخل المجلس التأسيسي وحاز أغلبية مريحة، فإنه سيشهد خلال الأشهر القادمة صراعا فكريا مذهبيا كبيرا سيجعله ينقسم إلى مجموعات بعضها سيختار الجلوس على الربوة تماما مثل المرجئة ويقتصر دوره على إصدار الفتاوى التي تكفّر هذا الشق وذاك ويحرّض أتباعه على المزيد من التشدد والانغلاق والانفصال على المجتمع، وبعضها الآخر سيختار دخول معترك الحياة السياسية والمشاركة في السلطة وسيجد نفسه بمرور الوقت يتحول إلى تيار مدني محلي (تونسي) يحمل لواء خدمة الناس.



اليسار.. التطور المستحيل

إذا كانت حركة النهضة، مسنودة بالتفاف مجموعات إسلامية من حولها، قد دخلت الصراع السياسي الراهن بإرث نضالي في مواجهة النظام السابق ما أكسبها تعاطفا لافتا، فإن جزءا لا بأس به من اليسار التونسي اختار أن يظل في خدمة نظام بن علي أو في أحسن الأحوال في موقع أنا لست معك أو لست ضدك، وهي وضعية ساهمت في انسحاب الكثير من قواعده وتراجع شعبيته وإنْ حاول البعض أن يتجاوز هذه الوضعية باستعادة الشعارات الثورية القديمة والمزايدة على الخصوم.



وهنا يقول الكاتب اليساري مصطفى القلعي في مقال له بعنوان “تنادٍ إلى قراءات نقديّة لواقع اليسار التونسي – مسؤوليّة اليسار قبل الثورة وبعدها” واصفا سلبيات “انفتاح” اليسار على بن علي “لقد نجح الحكم النوفمبريّ في تفتيت اليسار وفي سلبه أحلامه في المشاركة السياسيّة. لقد غدر به بكلّ بساطة. ووجد اليسار نفسه في عنق الزجاجة، إذ عليه أن يبرّر اختياراته ومواقفه وممارساته وسقطاته في أحضان بن علي لروّاده ومريديه ومناضليه” (موقع الأوان – 12 آيار 2011).



وبالإضافة إلى إحراجات الموقف التاريخي من مؤازرته بن علي في القضاء على خصوم أيديولوجيين (الإسلاميين)، فإن إرباك اليسار التونسي يأتي من حالة التشظي الداخلي والانقسامات المتعددة والمتواصلة قبل الثورة وبعدها ما يفقد هذه الكتلة الأيديولوجية فاعليتها السياسية والاجتماعية وقدرتها على منافسة القطب الإسلامي والدخول معه في صراع فكري وسياسي يدفع بالاثنين معا إلى التطور والتخلص التدريجي من الشعارات “الثورية” التي تخفي إحساسا واهما بامتلاك الحقيقة والقدرة على قيادة البلاد دون حاجة إلى وفاق أو تنازلات متبادلة.





صورة لن تراها الا في تونس لفتاة محجبة من أنصار حزب العمال الشيوعي

ولعل تهرب اليسار من فتح حوار فكري شامل مع الإسلاميين والقوميين على السواء ناجم بالأساس، عن إحساس بأزمة ما في العلاقة بالهوية العربية الإسلامية، فأغلب اليسار التونسي إلى ما قبل الثورة كان يعتبر الهوية العربية الإسلامية عاملا ثانويا يمكن تهميشه، وموقفه هذا كان المبرر الرئيس لتحالفه مع بن علي أو لنقل استنجاد بن علي باليسار لخوض معركة الاجتثاث أو “تجفيف المنابع”.



وكانت البداية مع المناضل الحقوقي محمد الشرفي الذي استقطبه الرئيس السابق وزيرا للتربية فقاد عملية إصلاح التعليم بهدف أساسي هو صرف الناشئة عن كل ما هو ديني لضرب النهضة بالنسبة إلى بن علي ولمحاربة “أفيون الشعوب” بالنسبة إلى “مناضلي” اليسار.

ثم فتح الأستاذ الشرفي الباب واسعا أمام “مناضلي” اليسار ليقودوا “لجان التفكير” في نظام بن علي المكلفة بمواجهة الظاهرة الدينية بما في ذلك بعدها التعبدي اليومي (خاصة الصلاة).



والصدمة الآن أن اليسار الذي كان يدعم جهد بن علي في محاصرة الديني وضربه بكل حزم في مختلف المؤسسات، تغير موقفه فجأة فأصبحت الأحزاب اليسارية بمختلف خلفياتها التروتسكية والروسية والماوية والألبانية تطالب “النهضة” بألا تتاجر بالمشترك الوطني، أي الإسلام.



لم تتم مراجعات يسارية حقيقية في العلاقة بمسألة الهوية وخاصة الدين، والانقلاب المفاجئ ناجم عن اللعبة السياسية التي استغرقت هذا التيار طويلا وحالت دونه واستثمار نقاط الضوء الكثيرة في منظومته الفكرية منها ما تعلق بالحداثة، والعدالة الاجتماعية ومحاربة الرأسمالية، والمثير أنك لا تسمع الآن زعيما يساريا تونسيا ينتقد اقتصاد السوق ويطالب بالاقتصاد الموجه وعودة الدولة للعب دورها التاريخي في التحكم بمختلف الآليات الاقتصادية والاجتماعية.

هل ثمة مراجعة ما لليسار التونسي تخلص فيها من فكرة الاقتصاد الموجه وتبنى اقتصاد السوق المعدل ونهوض الدولة بدور الرقيب؟



هذه المراجعات لم تصدر بعد ولم نقرأها ولا سمعنا بها!

وواضح أن اليسار يضع نصب عينيه لعبة السياسة واتجاهاتها بمنطق البراجماتية، وهنا يقول مصطفي القلعي في ذات المقال سالف الذكر:

“إنّ العجب والاندهاش ليصيباننا ونحن نرى اليسار التونسيّ مستمرّا على النهج نفسه رغم التحوّلات العاصفة التي شهدها المجتمع التونسيّ منذ مطلع سنة 2011. فمن الغريب أن يسير اليسار دائما دون أن يلتفت إلى الوراء قليلا، ودون أن يتشوّف الآتي. إنّه لا يرى إلاّ بين قدميه. وهو يتوهّم أنه يتقدّم. فهو يبدي هوسا عجيبا بالممارسة السياسيّة؛ السياسة باعتبارها مصالح ومكاسب وتحالفات خفيّة وعلنيّة غايتها في النهاية الوصول إلى الحكم”.



ويضيف “لم يتناد اليسار إلى الحوار والنقاش بين أطيافه. بل إنّه أصرّ على خلافاته التي ورث أغلبها من الحياة الطلابيّة في مختلف الأجزاء الجامعيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي. نرصد هذه الحال ونحن نراقب الدعوات الفاترة التي يتبادلها زعماء اليسار السياسيّ لتكوين جبهات سياسيّة استعدادا لخوض المحطّات الانتخابيّة القادمة”.



التيار القومي.. في البحث عن مكان تحت شمس الثورات

أزمة هذا التيار في تونس، ونعني أساسا التيار الناصري، تبدأ من كونه لا يظهر في الساحة إلا في حالة الانفراج السياسي، وحين الأزمات يختفي تماما ولا تظهر منه إلا بعض البيانات المتباعدة في الزمن، وحين يظهر إلى العلن سرعان ما تتقاذفه الانقسامات المرتبطة أساسا بزعامة الأحزاب، ويكفي الإشارة هنا إلى الاندماج بين فصيلين قوميين هما “حركة الشعب” و”الحركة الوحدوية التقدمية” وتشكيل حركة الشعب الوحدوية التقدمية لتعبر عن وجهة نظر التيار وتتقدم باسمه في انتخابات المجلس التشريعي، لكن سرعان ما استقال المنسق العام للحركة المحامي بشير الصيد وتتالت معها استقالة الكثير من القيادات الوسطى في مختلف المحافظات التونسية.

واتهم الصيد عناصر من القيادة (ما يطلق عليهم خصومهم مجموعة الوافدين، محامون ونقابيون) بكونها تصرفت خارج الشرعية في ربط تحالفات سياسية خاصة مع حركة النهضة في ما يتعلق برفض فكرة الاستفتاء لتحديد صلاحيات المجلس التأسيسي ومدته.

وفسر بعض المراقبين استقالة الصيد بأنها تدخل في سياق صراع الزعامات بين الجيل القديم والجيل الجديد لهذا التيار كما تأتي امتدادا لتقييمات نوعية في العلاقة بما جرى في ليبيا وسوريا، حيث يرى “الوافدون” أن هذه الأنظمة لا تمثل المشروع القومي بل هي تتناقض مع مصالحه الاستراتيجية، وهو موقف قابله شق آخر بالمعارضة الشديدة خاصة في ما يتعلق بليبيا/ القذافي التي كانت للتيار القومي علاقات قوية معها باعتبارها نموذجا قوميا.





تونس بين الدولة الدينية والدولة المدنية

وعلاقة التيار العروبي الناصري بالأنظمة القومية هي النقطة المركزية في واقع التيار ومستقبله، وهناك دعوات إلى قراءات مغايرة للتجارب القومية يتمسك خلالها التنظيم باستقلاليته الفكرية والسياسية تجاه هذه التجارب، بمعنى أنه يدافع عن الإيجابي فيها ويتخلى عن السلبي وينتقده ويدعو إلى تجاوزه.

فالأنظمة القومية فشلت فشلا ذريعا في قضية الديمقراطية، لا من حيث وسيلة وصولها إلى السلطة حيث جاءت كلها عبر الانقلابات، ولا من حيث أسلوب حكمها حيث بنت تجاربها على تضخيم الزعيم وتغييب المؤسسات وخوض معارك هامشية لا تعطي الانطباع الإيجابي على نموذج الحكم القومي في بناء التجربة المعبرة عن تطلعات مختلف الفصائل القومية الناصرية.



وباستثناء المواقف الممانعة في العلاقة بإسرائيل، وهي مواقف لم تُختبر على الأرض سوى في 1967 حيث منيت التجربة القومية بالهزيمة لسوء الإعداد والتقدير وتفوق الحلم الأيديولوجي على الحساب الدقيق للإمكانيات، فإن التجارب القومية لم تُعط النموذج الاجتماعي والاقتصادي ما يجعلها مرجعا تستند إليه الفصائل القومية في الاستقطاب السياسي.



وهناك معضلة أخرى لهذه الفصائل هي أنها تغلب الجانب القومي الوحدوي على القضايا القطرية، فحلولها للأمة تقف عند حدود يافطة الممانعة بما تعنيه من تضخيم لدور الأجنبي في التأثير والفعل واكتفائها بموضع المظلوم، وفي هذا السياق يقول الكاتب عبدالله القفاري في توصيف هذه الحالة: “أزمة هذا التيار، انه يبدو اليوم متحالفا بشكل أو بآخر، مع مشروع الممانعة وأزمته ايضاً انه تيار رفض لا تيار خلق واستنارة ومشروع، وأزمة هذا التيار انه يتوسل بحقيقة الظلم التاريخي وموازين اللاعدالة الدولية لكنه لا يقدم مشروعا يمكن الوثوق بملامحه، ولا يعترف بايجابيات مرحلة، ولا يحاول ان يستفيد من جملة تحولات يمكن استثمارها في صالح الإنسان” (– جريدة الرياض – 28 آذار 2005).



لكن لا بد من الاعتراف أن الساحة القومية في تونس بدأت تفكر في الاتجاه المحلي من خلال تحول التنظيم إلى قوة نقابية في ساحة المحاماة (انتخابات الهيئة الوطنية للمحامين، وانتخابات الفروع)، وفي ساحة التعليم الابتدائي والثانوي بعد أن كان جزء هام من هذه الساحة يردد بافتخار شعار القذافي الشهير “التمثيل تدجيل” في إشارة إلى مقاطعته للنقابات.



وهناك تطور آخر يخص كسر الجمود في العلاقة بالتيار الإسلامي، وهي علاقة تنوء تحت وطأة تاريخ من المواجهات بدءا بالتجربة الناصرية (مصر) وصولا إلى حماة 1982 (سوريا)، وأبو سليم 1996 (ليبيا)، وهناك خطوات في اتجاه التحالف في المجلس التأسيسي بين حركة الشعب الوحدوية التقدمية وبين حركة النهضة والفصائل التي تتحالف معها بين أن ظل القوميون في تحالف طويل مع تيارات اليسار.



وهكذا، فإن الكتل السياسية الكبرى (باختلاف أحجامها وتنظيماتها) وجدت نفسها مضطرة إلى أن تشارك في عملية سياسية لم تكن تستعد لها، وهو ما نكأ جروحها وفضح تناقضاتها، وفتح لها السبيل، وهذا الأهم في اعتقادنا، نحو تطوير خطابها وممارستها وتجديد شبكة تحالفاتها وفق متطلبات المرحلة.



مختار الدبابي

17/10/2011