الأحد، 26 ديسمبر 2010

مصر تنهض بمهامّ التطبيع مع المشاريع الأمريكية

مختار الدبابي*

لم تكن زيارة أبو الغيط "المفاجئة" إلى بغداد للقاء مسؤولي حكومة المالكي مفاجئة لمتتبعي حركة السياسة المصرية في السنوات الأخيرة، فمصر الرئيس حسني مبارك اختارت أن تكون العرّاب الرئيسي الذي يتولى تعريب المشاريع الأمريكية، أي يجعلها مطلبا عربيا تتبارى الأنظمة لتنفيذها وإنجاحها وكأنها مشاريع تخدم الأمة وتراعي مصالحها الراهنة والاستراتيجية.

والتطبيع المصري مع حكومة الاحتلال الخامسة في العراق لم يكن الخطوة الوحيدة التي خطاها النظام المصري تجاه العراق، فمصر كانت من أول الدول التي بادرت إلى كسر الحصار الدبلوماسي عن الحكومة التي شكلتها الأطراف المتحالفة مع الاحتلال وأرسلت سفيرها إيهاب الشريف الذي اغتيل بعد ذلك واضطر مختلف الأقطار إلى مراجعة انفتاحها الدبلوماسي على العراق في ظل الاحتلال.

بعد ذلك احتضنت القاهرة مؤتمرا لـ"المصالحة" حضرته أطراف طائفية كثيرة وتم استدراج أطراف أخرى نأت بنفسها عن العملية السياسية، وكانت الغاية توسيع حزام "الشرعية" الطائفية من حول الاحتلال، بالإضافة إلى جر "الدول المانحة" وخاصة دول الخليج والاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في العراق على أمل تحقيق سلام يجعل الاحتلال أمرا عاديا بل ويجعل منه حكما بين مختلف ألوان الطيف السياسي المذهبي والطائفي، على أن تكون الاستثمارات الكبيرة رشوة للعراقيين كي يقبلوا بالأمر الواقع مقابل توفير الوظائف.

لكن كل تلك الأحلام ذهبت مهب الريح خاصة مع موجة الفساد الواسعة التي ضربت العراق تحت الاحتلال وعمليات النهب المنظمة التي تتولاها إلى الآن المجموعات الطائفية المرتهنة للاحتلال من جهة ولإيران من جهة أخرى.

كما أن مصر قادت صحبة السعودية حملة مذهبية واسعة لشيطنة إيران والتركيز على دورها في العراق، وجاءت هذه الحملة بعد أن شعرت واشنطن أن طهران تتحكم في العراق عن طريق أطراف مهمة في الحكومة التي توهم الاحتلال الأمريكي طويلا أنها صنيعته وتابعة له.

وكان لا بد من حرب إعلامية واسعة قادتها القاهرة والرياض وعواصم أخرى صغيرة واستولدت لها فضائيات تخصصت في الحرب على الشيعة ومعتقداتهم وتكفيرهم، ومن ثمة تكفير الحكومة القائمة في طهران، ولما قررت واشنطن أن توقف حملتها على طهران اختفت تلك الفضائيات سريعا.

إن التطبيع الدبلوماسي المصري الجديد سيكون ولا شك مقدمة لتطبيع عربي أوسع مع "العراق الجديد" والغاية هي اختراق الهيمنة الإيرانية على العراق خاصة على وزارات السيادة والمؤسسات التي لها علاقة بالأمن والنفط، وذلك من خلال الاستجابة لحاجيات الحكومة الراهنة في مهمة بناء "العراق الجديد"، وهي حاجيات كثيرة وواسعة بعد أن هدم الاحتلال والمليشيات كل شيء في بلد كان مثالا عربيا على التطوير والتحديث.

وقد عرض أبو الغيط في لقاء له مع هوشيار زيباري أن تنهض "مصر بخبرتها وتجربتها الغنية" بمهمة "بناء القدرات العراقية للوزارت والمؤسسات"، وواضح أن الوزير المصري الذي افتتح قنصلية لبلاده في أربيل، كاعتراف رمزي بشرعية الدعوات الكردية للانفصال وتكوين "دولة كردستان" مثلما "تفهمت" جهود الانفصال في السودان، أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يعيد مئات آلاف المصريين للعمل بالعراق وينقذ النظام المصري من أزمته الخانقة ومن ناحية ثانية يؤدي واجب الولاء والطاعة للإدارة الأمريكية التي كلفت بلاده بتسهيل جهود التفتيت والتشطير من ناحية ومحاصرة قوى الممانعة والمقاومة في الأمة.

وفي ظل استمرار المساعدات الأمريكية المشروطة، وصمت واشنطن على الديمقراطية المفرغة التي تتبناها القاهرة رغم الاحتجاجات الواسعة والخروقات القانونية الكثيرة، والرضا الأمريكي الخفي على حالة الفساد الواسعة، فإن مصر تواصل النهوض بدورها بحماس وجدية لا مثيل لهما تعكسهما رمزية القتل اليومي الذي يتولاه الأمن المصري ضد الأفارقة الذين يحاولون التسلل إلى إسرائيل.

ودلالات هذا السلوك أن مصر لم يعد يعنيها كثيرا أن تكون الدولة المحورية التي تنهض بمهمة القيادة والسبق السياسي والاقتصادي في الأمة، وهي الآن إنما تتحرك بعقلية قطرية صرف، بل ومن مصلحة النظام الذي يريد أن يحافظ على وجوده ومكاسبه في ظل التوازنات الدولية القائمة، وهي توازنات تخدم أولا وأخيرا المصلحة الأمريكية.

وفي ظل هذه السياسة نفهم سر الإصرار المصري على محاصرة قطاع غزة حصارا تاما لا يقبل الاختراق أو التنفيس، والانحياز المكشوف ضد حزب الله ودوره في لبنان كقوة مقاومة يمكن أن تزعج إسرائيل أو تهدد أمن "شمال إسرائيل".. وهي مهام حراسة يبدو أن مصر صارت تتشرف بها وتناضل للحفاظ عليها.

* نص افتتاحية صحيفة "العرب" (18 - 12 - 2010)

من أغرق السودان: «الإنقاذ» أم التآمر الخارجي؟

مختار الدبابي

دأبنا على ربط أزماتنا بالمؤامرة الخارجية من أجل استمرار الواقع كما هو، واحتفاظ القوى المستفيدة من الأزمات بالمزايا القائمة. لا أحد يُنكر الدور الفاعل الذي يلعبه التدخل الخارجي في تثبيت حالة التخلف والاستبداد ودفع المنطقة ككل نحو التفتيت وتكوين كانتونات جديدة على أنقاض الدولة القطرية التابعة التي يبدو أنها لم تعُد تفي بالغرض أمريكيا، لكن التدخل الخارجي لا يمتلك الفاعلية القصوى إلا بتحقق شروط موضوعية داخلية تمثل أرضية مثلى له.

وفي الملف السوداني، مثلا، تتحقق الشروط الذاتية/ الموضوعية التي سمحت للقوى الخارجية بالتدخل في مختلف الملفات السودانية وانتهت أخيرا إلى فرض التقسيم عبر الاستفتاء الذي هو في الظاهر عملية ديمقراطية حرة، لكنه في العمق دليل على غياب الديمقراطية وارتفاع صوت السلاح على حساب صوت المؤسسة المدنية المنتخبة.

الكثير من ديمقراطيات الأنظمة العربية، وكتابات المثقّفين تحت الطلب، تحصر الممارسة الديمقراطية في جلب الناس إلى صناديق الاقتراع وفي الإعلان عن النسب المرتفعة كدليل على المشاركة الشعبية؛ وفي الحقيقة فإن هذه "الديمقراطية" لا تعدو أن تكون مسرحية للتضليل وتثبيت سلطة الأحزاب الحاكمة.

السودان نموذج عن هذه الديمقراطية المضللة التي أعطت الحكومات المتعاقبة والرؤساء الذين تداولوا على السلطة "بالانقلاب ثم أكسبوا أنفسهم "الشرعية" الديمقراطية لاحقا" صلاحيات الاستمرار في التعاطي الخاطئ مع الأزمات السودانية المختلفة.

أزمة السودان الكبرى أن حكوماته ورؤساءه فشلوا جميعا في فهم طبيعة هذا الكيان الواسع والمتعدد دينيا وعرقيا، وحكموا البلاد دائما كشماليين وليس كسودانيين، وفرضوا اللغة العربية و"الشريعة" "بما هي عقاب وأداة أخلاقية لتثبيت السلطة ليس إلا"، وخلقوا بالتالي الأرضية الشعورية الحقيقية التي غذت الرغبة في الانفصال لدى أبناء الجنوب ولدى مختلف الأقاليم المرشحة للانفصال.

وبالنتيجة، فإن السوداني الذي يشعر أن اللغة العربية والشريعة "ومن ورائهما الانتماء القومي، أو الإسلامي" أدوات لتثبيت وضعه في الهامش بمنعه من الوظيفة ومنع المنطقة التي ينتمي إليها من المشاريع التنموية والخدمات الأساسية، خاصة حين تكون غنية بالنفط أو المعادن وتوظف السلطة في الشمال عائدات هذه المعادن في شراء السلاح الذي تجلد به أهلها بدل أن تحارب به الفقر والجوع والأمية.

وواضح هنا أن السلطة الشمالية "منذ الاستقلال" لم تتعامل مع مختلف ألوان الطيف الديني والعرقي في السودان وفق قيمة المواطنة ولم تؤسس لقيمة الانتماء الوطني في قلوب الناس، وإنما قسمت البلاد من حيث لا تدري "وربما تدري وتمارس الأمر عن قصد" إلى أوطان كامنة في الصدور وحين تحين اللحظة تُعبّر عن نفسها ولا تجد ضيرا في أن تتعاون مع الشيطان لتحققها.

وهنا، لا يبدو الأمر ذكاء أمريكيا ولا إسرائيليا في دفع الجنوب نحو الانفصال واللعب على حالة الإحساس بالضيم والدونية لدى أهله في "السودان الموحّد"، بل إنهما استثمرا أخطاء جماعة "الإنقاذ" التي أغرقت السودان بدل أن تُنقذه..
ولنا عودة..

صحيفة العرب -27-12-2010
من أغرق السودان: «الإنقاذ» أم التآمر الخارجي؟



مختار الدبابي

دأبنا على ربط أزماتنا بالمؤامرة الخارجية من أجل استمرار الواقع كما هو، واحتفاظ القوى المستفيدة من الأزمات بالمزايا القائمة. لا أحد يُنكر الدور الفاعل الذي يلعبه التدخل الخارجي في تثبيت حالة التخلف والاستبداد ودفع المنطقة ككل نحو التفتيت وتكوين كانتونات جديدة على أنقاض الدولة القطرية التابعة التي يبدو أنها لم تعُد تفي بالغرض أمريكيا، لكن التدخل الخارجي لا يمتلك الفاعلية القصوى إلا بتحقق شروط موضوعية داخلية تمثل أرضية مثلى له.

وفي الملف السوداني، مثلا، تتحقق الشروط الذاتية/ الموضوعية التي سمحت للقوى الخارجية بالتدخل في مختلف الملفات السودانية وانتهت أخيرا إلى فرض التقسيم عبر الاستفتاء الذي هو في الظاهر عملية ديمقراطية حرة، لكنه في العمق دليل على غياب الديمقراطية وارتفاع صوت السلاح على حساب صوت المؤسسة المدنية المنتخبة.

الكثير من ديمقراطيات الأنظمة العربية، وكتابات المثقّفين تحت الطلب، تحصر الممارسة الديمقراطية في جلب الناس إلى صناديق الاقتراع وفي الإعلان عن النسب المرتفعة كدليل على المشاركة الشعبية؛ وفي الحقيقة فإن هذه "الديمقراطية" لا تعدو أن تكون مسرحية للتضليل وتثبيت سلطة الأحزاب الحاكمة.

السودان نموذج عن هذه الديمقراطية المضللة التي أعطت الحكومات المتعاقبة والرؤساء الذين تداولوا على السلطة "بالانقلاب ثم أكسبوا أنفسهم "الشرعية" الديمقراطية لاحقا" صلاحيات الاستمرار في التعاطي الخاطئ مع الأزمات السودانية المختلفة.

أزمة السودان الكبرى أن حكوماته ورؤساءه فشلوا جميعا في فهم طبيعة هذا الكيان الواسع والمتعدد دينيا وعرقيا، وحكموا البلاد دائما كشماليين وليس كسودانيين، وفرضوا اللغة العربية و"الشريعة" "بما هي عقاب وأداة أخلاقية لتثبيت السلطة ليس إلا"، وخلقوا بالتالي الأرضية الشعورية الحقيقية التي غذت الرغبة في الانفصال لدى أبناء الجنوب ولدى مختلف الأقاليم المرشحة للانفصال.

وبالنتيجة، فإن السوداني الذي يشعر أن اللغة العربية والشريعة "ومن ورائهما الانتماء القومي، أو الإسلامي" أدوات لتثبيت وضعه في الهامش بمنعه من الوظيفة ومنع المنطقة التي ينتمي إليها من المشاريع التنموية والخدمات الأساسية، خاصة حين تكون غنية بالنفط أو المعادن وتوظف السلطة في الشمال عائدات هذه المعادن في شراء السلاح الذي تجلد به أهلها بدل أن تحارب به الفقر والجوع والأمية.

وواضح هنا أن السلطة الشمالية "منذ الاستقلال" لم تتعامل مع مختلف ألوان الطيف الديني والعرقي في السودان وفق قيمة المواطنة ولم تؤسس لقيمة الانتماء الوطني في قلوب الناس، وإنما قسمت البلاد من حيث لا تدري "وربما تدري وتمارس الأمر عن قصد" إلى أوطان كامنة في الصدور وحين تحين اللحظة تُعبّر عن نفسها ولا تجد ضيرا في أن تتعاون مع الشيطان لتحققها.

وهنا، لا يبدو الأمر ذكاء أمريكيا ولا إسرائيليا في دفع الجنوب نحو الانفصال واللعب على حالة الإحساس بالضيم والدونية لدى أهله في "السودان الموحّد"، بل إنهما استثمرا أخطاء جماعة "الإنقاذ" التي أغرقت السودان بدل أن تُنقذه..
ولنا عودة..

صحيفة العرب -27-12-2010

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

ويكيليكس يجلد السلطة: هل انتهى دور عباس؟

مختار الدبابي*

من البداية لم نغتر بـ"لعبة" ويكيليكس التي راح صانعوها يصفّون الحساب مع الأقطار العربية وقياداتها ومؤسساتها وقضاياها بشكل منظم وموجّه.

ورغم إيماننا بالدور الكبير الذي تلعبه التكنولوجيا في تفاصيل حياتنا ما يجعل الحصول على المعلومة مهْما كانت صعبة أو سرية أمرا ممكنا وسهلا، ومن ثمة لم يكن مفاجئا لنا نظريا أن "يسرق" جندي مجهول ملايين الوثائق الأمريكية ويسلمها إلى مالك موقع ويكيليكس، لكننا لم نصدق "براءة" التسريبات ولم نقتنع أن الجندي العادي لم يحصل إلا على وثائق تجلد العرب وتقدم بعض زعمائهم في صورة من يعمل ضد شعبه وأمّته فيما ظلت إسرائيل خارج التسريبات، وبدت الإدارة الأمريكية (الراهنة والسابقة) هي من يتحكم في المشهد الدولي كله.

إن نظرية المؤامرة تفرض نفسها، هنا، إذا نظرنا إلى المشهد في شموليته، أي بعيدا عن الشماتة في هذا النظام العربي أو ذاك، وإذا لم نغرق في التفاصيل وتصفية الحساب والنظر أمام أنوفنا.

فالهدف الكبير للتسريبات لم يكن إدانة أنظمة عربية غارقة في الفساد أو تعمل جاهدة من أجل تحقيق الأجندة الأمريكية في المنطقة حتى دون أن تطلب الإدارة الأمريكية ذلك، وإنما تقديم الأمة في صورة سيئة ما يُعطي الانطباع لكل العالم أن هذه الأمة تستحق ما يلحق بها من غزو وحصار ومؤامرات.
ومن ثمة إعطاء مشروعية للحرب الأمريكية على "الإرهاب" واحتلال العراق وتشطير السودان، ثم وأساسا إعطاء "مشروعية أخلاقية" للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ومختلف استتباعاته (إفراغ القدس المحتلة من أهلها الشرعيين، توسيع الاستيطان..).
في هذا السياق، جاءت "التسريبات" الأخيرة لويكيليكس هادفة إلى تصفية السلطة الفلسطينية والاستهانة برموزها والتحريض عليها من خلال كشف علاقتها بالعدوان على غزة نهاية 2008، والتركيز على المراحل المتقدمة التي قطعها التنسيق الأمني بين الاجهزة الأمنية للسلطة والدوائر الأمنية الصهيونية.
وهي رسالة دقيقة في مرحلة دقيقة؛
فالسلطة الفلسطينية، وفي مقدمتها الرئيس محمود عباس، اكتشفت بعد ما يُقارب العقدين من التفاوض والتنازلات المؤلمة والمجانية أن إسرائيل تفاوض لأجل التفاوض وربح الوقت وليس في نيتها الاعتراف بأي دولة فلسطينية ولو على شبر واحد من الأرض، واكتشفت السلطة من ثمة أنها مجرد لعبة في لعبة أكبر وأوسع مدى، ولذلك سمعنا الرئيس محمود عباس يهدد بالانسحاب والاستقالة في أكثر من مرة، لكنه كان يتراجع تحت ضغوط أمريكية مصرية على وجه الخصوص.
وبالنتيجة، فإن القراءة الإسرائيلية الأمريكية انتهت في هذا السياق إلى نتيجة رئيسية، وهي أن زمن عباس قد انتهى ولا بد من سلطة جديدة تكون قادرة على تقديم المزيد من التنازلات دون سقف ولا ضوابط، وسيكون عرابوها من داخل السلطة ذاتها ممن تمتلك عليهم الدوائر الإسرائيلية ملفات في الفساد والتآمر على شعبها، أو من بين المنظّرين للسلام الاقتصادي الذي يعني ببساطة الأكل مقابل الأرض.
وحين تتوفر الشروط الموضوعية لتشكل "السلطة البديلة" سيُسمح للرئيس محمود عباس أن يستقيل بـ"كرامة" و"عزة نفس"، أو سيُعطى الأمر لـ"المؤسسات الديمقراطية" الفلسطينية أن تقيله (خاصة أنه لم يعُد رئيسا من وجهة نظر قانونية ودستورية) أو تدعو لانتخابات "سابقة لأوانها".
ومن المهم، هنا، الإشارة إلى أن تسريبات ويكيليكس "البريئة" قد تعمّدت تحقيق أهداف جانبية أخرى ستساعدها في الوصول إلى مرحلة "السلطة البديلة"، وأهمها إضعاف حركة فتح ودفع أعضائها ومتعاطفيها إلى أتون الصراع والخلافات الحادة وإعادة الحركة إلى مراحل قديمة كانت قطعت معها وساد فيها خطاب التخوين والعمالة والمزايدة حول الوطنية.
وإضعاف فتح أو شق صفوفها يعني آليا إضعاف أحد أهم مكامن القوة لدى الشعب الفلسطيني (رغم حالة الاختطاف التي تعيشها)، يضاف إليها توسيع دائرة العداء بين القوى والفصائل الوطنية المؤثرة خاصة بعد التسريبات الأخيرة عن التنسيق الأمني التي أعطت حركة حماس الفرصة كي تهاجم فتح بقوة.
ومن ثمة نجحت إسرائيل عبر ويكليكس في أن توسع هوة الخلافات بين الحركتين وتئد ما تبقى من آمال ضعيفة في فرص نجاح جهود المصالحة الوطنية.
ولا بد من التذكير هنا بالتحريض الذي مارسته تسريبات ويكليكس واستهدفت به حزب الله وسلاحه وعلاقته المفترضة بإيران وسوريا، وهو تحريض متماه في الأهداف مع التسريبات الأمريكية الفرنسية السابقة له عن قرار محتمل يصدر عن المحكمة الدولية يورط حزب الله في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، والهدف من وراء هذا كله هو توفير الشروط الموضوعية لمحاصرة الحزب ونزع سلاحه وإعطاء "مبررات" لحرب إسرائيلية مفاجئة ضده.
وفي سياق آخر من وجوه التوظيف الفج والمفضوح التي تمارسها الأطراف التي تقف وراء "تسريبات" ويكيليكس نشير إلى ما جاء من اتهام للرئيس السوداني عمر البشير من سرقة مليارات الدولارات ووضعها بأحد الحسابات الخاصة بالخارج، وهو تسريب يهدف إلى الضغط على البشير حتى لا يكون عقبة أمام عملية الانفصال في الجنوب، وهي عملية تراهن أمريكا على تمريرها بكل السبل في سياق خططها الاستراتيجية لتفتيت الأمة إلى دويلات قزمية ستكون تابعة ومرتهنة للاستعمار الجديد بالضرورة.
وهكذا، لم يكن مفاجئا أن تختص "تسريبات" ويكيليكس بالعرب لتوجد الأرضية اللازمة لمواصلة ابتزازهم والتآمر عليهم.

* نص افتتاحية العرب العالمية (22 – 12 - 2010)

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010

نجاد يملأ الفراغ العربي

مختار الدبابي*

لا شك أن الأوساط الرسمية العربية لم تكن تتصور أن تبلغ الجرأة بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد حد زيارة الجنوب اللبناني والمبيت به في ضيافة حزب الله، أي على الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي مرمى السلاح الإسرائيلي الذي يرعب "المعتدلين" العرب ويخافون من مجرد ذكره فما بالنا بالتفكير في الاحتجاج عليه أو التصدي له..
فهذه الخطوة التي توصف عربيا بالمغامرة غير المحسوبة العواقب تكشف عن ثقة عالية بالنفس لدى القيادة الإيرانية وترسل برسائل كثيرة في اتجاهات مختلفة نأمل أن نقرأها نحن العرب ونحسن التعامل معها، ومن هذه الرسائل الإيرانية المشفرة التي جاءت زيارة نجاد لتزيح الستار عن علاماتها ودلالاتها؛
أولا؛ أن طهران التي تقول إنها تتحدى أمريكا وإسرائيل هي تفعل ذلك عمليا وتغالب الوقت لتكون جاهزة للمواجهة المرتقبة وأنها لا تبيع الكلام والشعارات، بل تصنع الصواريخ والمقاتلات والسفن الحربية، وليس في أجندتها تكتيك ولا مناورة يقودان إلى مفاوضات تجلب لها الذل والمهانة لشعبها.
ثانيا؛ أنها صارت رقما إقليميا لا يمكن التغاضي عنه أو تناسي مصالحه في حل أي قضية بالمنطقة، بدءا بالملف اللبناني الذي يمثل حزب الله الحلقة الأهم فيه والطرف الرئيسي الذي يستطيع أن يضمن الاستقرار ويصدّق على التفاهمات والاتفاقيات التي تتم في بعض العواصم العربية بالوكالة ولحساب الغير..
مرورا بالعراق الذي أصبح الدور الإيراني فيه مفصليا ولم تُفد معه الأدوار الخفيفة التي تنهض بها مصر أو السعودية في محاولة لـ"تعريب" الحل خدمة لأمريكا ومحاولة لإخراجها من الأزمة الخانقة وتسهيل انسحابها "المشرف" من بلاد الرافدين..
ووصولا إلى فلسطين حيث أصبحت الفصائل المقاومة تتعلق بالدعم الإيراني كقشة نجاة وحيدة عساها تتصدى للبيع العلني للقضية الذي نهضت به بعض العواصم العربية عبر بوابة مفاوضات السلام الكارثية.
ثالثا؛ الرسالة الإيرانية الجريئة تقول لإسرائيل إن طهران لا تمزح وأن أي غارة إسرائيلية مجنونة على منشآتها النووية مثلما تم سنة 1982 مع مفاعل تموز العراقي لن تمر بلا ثمن سريع وجاهز ومكلف، ولا شك أن إسرائيل ستقرأ الرسالة جيدا خاصة وقد خبرت حرارة رد حزب الله في حرب 2006، وتعرف أن صواريخه ستنطلق على المدن والقرى التي تريد تل أبيب أن تجعلها "يهودية خالصة" بعد أن طردت أهلها سنة 1948 و1967 وتريد إخراج من بقي ثابتا وتحمّل القهر والإذلال والعنصرية.
رابعا؛ نجاد الذي نام البارحة هانئا في ضيافة السيد حسن نصر الله كأنما أراد أن يقول للإدارة الأمريكية إن إيران هي الطرف الوحيد في المنطقة الذي لا مفر من التفاوض معه حتى تحقق واشنطن أجنداتها، فأذرعها العسكرية والسياسية موجودة في لبنان والعراق واليمن، وهي جاهزة للتعاون كما هي جاهزة للحرب.
ولقد استعانت أمريكا بالدعم الإيراني في غزو أفغانستان وخاصة في غزو العراق حيث قدمت طهران خبراتها ووظفت إمكاناتها في الإطاحة بحكم الرئيس صدام حسين واشتركت مع الأمريكيين في تصفية القيادات العسكرية والأمنية والسياسية للعراق وفتحت البلاد لهم ولها ولعملائها على الفوضى والفساد والتهريب.
خامسا؛ والرسالة الإيرانية الأهم التي حملتها زيارة نجاد كانت موجهة للعرب ومفادها أن طهران لن تكتفي بالعراق ولبنان واليمن بل سيصل تأثيرها إلى غزة والسعودية والكويت والبحرين وشمال أفريقيا، وأنها ستملأ الفراغ الذي تركه النظام الرسمي العربي بعد أن تخلى عن القضايا القومية وصار يخوض معارك الأمريكيين بوجه مفضوح.
إن إيران تستفيد بشكل جيد من السلبية الكبيرة التي تتعاطى بها الدول العربية الكبرى و"المعتدلة" مع مختلف القضايا، فماذا بيد حماس أن تفعل إذا كانت مصر تتولى مهمة حصارها وتجويعها ومنعها من مقاومة الاحتلال سوى أن تمد اليد للمال الإيراني، وكيف يمكن أن يكره الشارع العربي طهران إذا كانت تدعم حزب الله بالسلاح والتدريب والمال ليتصدى لإسرائيل ويطردها من لبنان ويحرر أراضيه؟
والمؤسف أن الدول العربية "المعتدلة" لا تحارب إيران إعلاميا ولا تسعى لقصقصة أجنحتها في لبنان وغزة والعراق رفضا لدورها الطائفي بالعراق أو لبنان، ولا انتصارا للأمة أو للمذهب السني أو لزوجات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما استجابة للرغبة الأمريكية وانخراطا مجانيا في حرب واشنطن المفتوحة (سياسيا واقتصاديا وإعلاميا) على طهران، وإلا أين كانت الآلة الإعلامية "العربية" حين وضعت إيران اليد في اليد مع أمريكا في احتلال العراق وتدميره وضرب وحدته الوطنية، ألم تفتح الكويت والرياض والدوحة أراضيها أمام القوات الأمريكية كي تدخل "آمنة" أرض العراق؟
إن بعض الزعامات العربية لا تُفكّر إلا في اللحظة الراهنة وتريد من الاصطفاف المجاني وراء الإدارة الأمريكية تحقيق أهداف خاصة كفرض التوريث أو تصفية بعض الخصوم السياسيين، لكن هذه اللعبة ستكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل الأمة وعلى مستقبل هذه الأنظمة ذاتها، فالحرب بين أمريكا وإيران إما أنها ستدخل المنطقة في حالة من الفوضى الأمنية وهو ما سيعيد المنطقة إلى نقطة الصفر ويضرب المكتسبات التي حققتها ويغذي الإرهاب والعنف ولن تحقق هذه الأنظمة منها شيئا بل ستكون أول المتضررين، وإما أن تؤول الحرب إلى منتصر (طهران أو واشنطن) يتحكم في رقاب العرب ونفطهم وخيراتهم ووقتها لن يجد بعض الزعماء المتحمسين لضرب إيران خدمة للمشروع الأمريكي أي حظوة سوى التذلل والمسكنة .
إن رسائل نجاد التي رمى بها في وجوه الأمريكيين والإسرائيليين و"المعتدلين" العرب فرصة هامة ليقف العرب على الحقيقة ويعيدوا حساباتهم الآنية الضيقة ويفكروا في المستقبل.

* نص افتتاحية العرب العالمية (14 - 1 - 2010)

استهداف حزب الله: خنق لإيران أم استئصال للمقاومة؟

مختار الدبابي*

ليس هناك شك في أن ثمة مسرحية تعدها المحكمة الدولية الخاصة بقضية الحريري تنتهي فيها إلى اتهام حزب الله بالوقوف وراء الجريمة، وهو اتهام ممكن بل وأكيد لما خبره العرب عن بعض المنظمات التي تزعم أنها تعبّر عن القانون الدولي وتدافع عنه، وهي في الحقيقة أداة بيد الولايات المتحدة تمارس عبرها التضليل والابتزاز وتُمرر عبرها مشاريعها وخططها في محاصرة القوى التي يمكن أن تُعيق تمددها الاستعماري وهيمنتها على مقدرات الشعوب.
والأمثلة هنا كثيرة، وعلى رأسها المسرحية التي بررت غزو العراق بزعم أنه يمتلك أسلحة "محرمة" دوليا، ليتضح أن الاتهام قام على النية المبيتة وعلى مؤامرة اشتركت فيها الوكالة الذرية للطاقة والاستخبارات الأمريكية وبعض الأنظمة العربية "المعتدلة"، والقصة وما فيها أن العراق رفض أن يدخل بيت الطاعة الأمريكي وأن يهب نفطه وخيراته بأرخص الأثمان إلى قوى الاستعمار الجديد كما يفعل جيرانه العرب.
والقصة ذاتها تجري مع الرئيس السوداني عمر البشير الذي تطالب المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله بدعوى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكن الحقيقة أن الرجل رفض أن يكون عرّابا لتفتيت بلاده أو وضع نفطها تحت القبضة الأمريكية.
ولا شك أن الحرب الإعلامية المفتوحة على حزب الله والتسريبات التي تبرز هنا وهناك عن دور مزعوم له في اغتيال الحريري لا تعدو أن تكون جزءا من ذات اللعبة، أي تحضير الشروط السياسية والإعلامية والقانونية اللازمة لضرب هذا الحزب سواء بحرب خارجية تتولاها إسرائيل أو من خلال توتير الوضع الداخلي ودفع اللبنانيين إلى حرب أهلية جديدة تستنفد إمكانيات الحزب وتقلّص من دائرة التعاطف الشعبي معه، وهي دائرة كبيرة وواسعة خاصة أن غالبية اللبنانيين تعترف لهذا الحزب المقاوم بالفضل الكبير في تحرير الأرض وطرد الاحتلال الإسرائيلي سنة 2000 ثم هزمه في معركة شرف كبيرة سنة 2006.
وإذا كانت لحظة استهداف حزب الله قادمة لا محالة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: مع من سيقف العرب؟
وهذا السؤال عنده مشروعية لدى الكثيرين، فهناك قناعة لدى طائفة من الجمهور العربي بأن الحزب لا يعدو أن يكون ذراعا إيرانية في مواجهة الولايات المتحدة وبوابة تفاوض وابتزاز على حساب القضايا العربية، محتجين بالدور المتآمر الذي لعبته إيران في غزو العراق والدعم الواسع الذي وفرته للقوات المحتلة.
وباعتقادنا أن التعامل العربي مع حزب الله يجب أن يغادر دائرة الحسابات الضيقة، لأن استهداف حزب الله وتصفية إمكانياته المقاومة الهدف الاستراتيجي منه هو ضرب القوى التي تُزعج إسرائيل وتهدد أمنها سواء تعلّق الأمر بحزب الله أو حماس أو الجهاد، تماما مثلما وقع الأمر مع حركة فتح سنة 1982 التي تم تشتيت مقاوميها في المنافي ولم تعُد إلا بعد أن اختارت قيادتها التخلي عن المقاومة ودخلت إلى مظلة التفاوض والاستسلام.
إن القوى الحية في الأمة سواء أكانت أحزابا أو حركات سياسية أو قوى فكرية وإعلامية أو جمهورا مطالبة بأن تنسى الخلافات المذهبية والتفاصيل الثانوية وتنحاز إلى حزب الله وتدعم وقوفه في وجه الصلف الأمريكي والصهيوني لأن نجاح الأعداء في هزمه عسكريا أو تجريده من السلاح يعني آليا فتح الباب أمام إسرائيل كي تتولى تصفية القضية الفلسطينية بالأسلوب الذي تريد، وفرض التطبيع على دول المنطقة بالشروط التي تضمن تفوقها الاستراتيجي.
بعد تصفية حزب الله أو تحجيم دوره سيأتي الدور على حماس والجهاد ومختلف المجموعات التي ما تزال تؤمن بالمقاومة ولو نظريا، ولا يبقى للأمة من خيار سوى التسليم بالأمر الواقع، ولا يمكن بأي حال أن تنخدع القوى الحية في الأمة باللعبة الإعلامية التي تتولاها بعض الأنظمة العربية والتي تريد أن تغيّر طبيعة الصراع وتجر الجميع إلى أتون الصراع المذهبي والطائفي لتصبح المعركة مع إيران بدل أن يتعمّق وعي أمتنا بالعداء لإسرائيل باعتبارها صنيعة امبريالية أريد لها أن تتولى منع العرب من خوض معارك التنمية والتطوير والتحديث وامتلاك ناصية العلم.
إن دول "الاعتدال" العربي التي تُحرّض على حزب الله وتُحرض على حماس، كما حرضت سابقا على الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ليس لها من دور أو مهمة سوى تنفيذ الأجندات الأمريكية دون تفكير في المضار التي ستلحق بأمتهم بل وبأقطارهم وأمنها واقتصادها ومستقبلها.. هذه الأنظمة لا يهمها سوى الحفاظ على السلطة وضمان انتقالها بشكل سلس بين أفراد العائلات المستفيدة من بيع الذمة للأمريكيين والإسرائيليين.
وهكذا فإن استهداف حزب الله حتى وإن كان ضربة أمريكية موجعة لإيران، فهو في صميمه استهداف للأمة وقواها المقاومة وستكون له تداعيات خطيرة على المستقبل القريب والبعيد.

* نص افتتاحية العرب العالمية (24 - 11 - 2010)

الاستعمار الجديد يلعب ورقة مسيحيي الشرق

مختار الدبابي*

أعادت عملية احتجاز الرهائن في كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد والمجزرة الدموية التي تلت اقتحامها من قبل القوات الأمريكية والعراقية إلى الواجهة وضع مسيحيي العراق ومن ورائهم مسيحيو الشرق ككل، وهناك تركيز في وسائل الإعلام الأجنبية على أنهم مستهدفون في هذه اللحظة، ولكن لماذا؟ ومن يستهدفهم؟
ونود من البداية التأكيد على أن المسيحيين والمسلمين في الوطن العربي، ورغم ما بينهم من اختلافات دينية، عاشوا قرونا طويلة في تعايش مبني على الاحترام الديني والاعتراف بحق الآخر في العبادة والعمل والمواطنة وإن اختلفت التسميات.
وحالة العداء الإسلامي المسيحي لم تكن موجودة في فترة الاستعمار ولا في العقود الأولى لتشكل الدولة الوطنية، بل إن أسماء بارزة من المسيحيين ساهمت في تأسيس القومية العربية والتنظير لها ما يعني أن المسيحيين كانوا في قلب الجهد القومي والوطني من أجل التحرر وبناء الدولة الوطنية الحديثة، فمتى إذن صعدت إلى الواجهة قضية مسيحيي الشرق؟
الصعود الأول لهذه القضية كان إبان الحرب الأهلية في لبنان، وهي حرب دينية وطائفية في ظاهرها لكن الأحداث كشفت عن دور كبير فيها للاستعمار بوجهيه؛ القديم والجديد، ففرنسا كانت مورطة وأمريكا وإسرائيل دخلا طرفا في القضية وحاولا توظيف مجموعات مسيحية في معركة لي الذراع مع سوريا، وهذه الحرب خسر فيها المسيحيون كما خسرت بقية مكونات المجتمع اللبناني بأوجهها الطائفية المختلفة.
أما مسيحيو العراق فالجميع يشهد أنهم عاشوا طيلة عقود الدولة العراقية الحديثة وخاصة في ظل حكم البعث كمواطنين مثلهم مثل الأكراد والشيعة والسنة، وهذه التسميات والأوصاف الطائفية لم تكن موجودة أصلا في قاموس هذا البلد الذي عامل أبناءه على قدر كامل من المساواة وبعدل ونزاهة.
وما يؤكد هذا هو وجود السيد طارق عزيز في وزارة الخارجية العراقية حيث كان صوت العراق إلى الخارج والمعبر عن عدالة قضيته، وهو شخصية وطنية نموذجية وعنوان صادق على تلك المساواة..
لكن التمييز ضد مسيحيي الشرق لم يظهر إلا مع الاحتلال الأمريكي هذا الذي أطلق أيدي المليشيات الطائفية والمذهبية تنهش لحم البلد بكل مكوناته، ومثلما تعرض المسيحيون للتهجير والقتل فقد تعرض جزء من شيعة العراق إلى القتل العبثي وتمارس ضد سنة العراق أشكال كثيرة من التمييز والقهر والإذلال.
لو كان الاحتلال الأمريكي مدافعا عن المسيحيين كما يسوّق لذلك الإعلام الغربي كذبا وبهتانا لما سلّم هذا الاحتلال طارق عزيز المسيحي الوطني الشريف إلى المليشيات الطائفية الحاكمة لتمارس عليه التعذيب والإذلال وتحكم عليه بالإعدام في مسرحية قضائية ساذجة.
إن إثارة تصعيد قضية مسيحيي العراق إلى الواجهة الإعلامية الغاية منها البحث عن تعاطف الشارع الغربي مع الاحتلال، خاصة أن الامبراطورية الأمريكية سقطت سقوطا أخلاقيا مدويا وتمرغت صورتها في الوحل بعد أن اكتشف العالم، وخاصة الشارع الأمريكي والأوروبي، أن الحرب على العراق قامت على أكاذيب..
فضلا عن أن الاحتلال داس خلالها على كل المواثيق والقيم الإنسانية ومارس التعذيب في أبشع صوره وفتح العراق مشرعا أمام الفساد والنهب وحوّله من بلاد للحضارة إلى غابة يداس فيها على كل القيم النبيلة.
من المهم أن يحذر مسلمو الشرق تماما مثل مسيحييه من أن الامبراطورية الامبريالية تريد أن تُفتت الأمة إلى دويلات قزمية، وهي مثلما وظفت العداء التاريخي بين الشيعة والسنة في إثارة حرب أهلية بالعراق خلفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين، ها هي الآن تحاول أن توظف المسيحيين في لعبتها القذرة لضمان تفتيت العراق والسودان وحتى مصر.
إن انفصال جنوب السودان عن شماله لا يمكن أن ينتهي إلى جنة بالنسبة إلى مسيحيي السودان، فأمريكا لا يعنيها من المسألة إلا أمر واحد هو تقسيم هذا البلد الذي ينهض على إمكانيات جغرافية وطبيعية هائلة إلى دويلات صغيرة لا تستطيع أن تعيش دون المظلة الأمريكية، وهو ما يجعل خيرات السودان الطبيعية والنفطية في قبضة أمريكا تفعل بها كما تشاء مثل ما تفعل الآن بخيرات الخليج العربي.
ومع الأسف، ومثلما اغتر بعض المسلمين العرب بالخطاب الأمريكي المضلل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتآمروا معها ضد بلدانهم، فإن بعض الأطراف المسيحية العربية (المصرية على وجه الخصوص) وضعوا أنفسهم في خدمة الامبراطورية الامبريالية واهمين أنها ستتدخل لفائدتهم وتفرض لهم مراكز متقدمة في صنع القرار وفي البرلمان وفي الإدارة وغيرها.
ليس أمام أبناء الأمة مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم سوى مصير مشترك إما أن ينهضوا به معاً في سياق وحدة وطنية تقر حق الاختلاف وتنهض على مبدإ المواطنة، أو يسقطوا جميعا تحت الاستعمار في ثوبه الجديد، وهو استعمار أشد وقعا وأكثر عدوانية.

*نص افتتاحية العرب العالمية (2 - 11 - 2010)

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

إيران انتصرت في العراق.. ولو إلى حين

مختار الدبابي

كل الدلائل تقول إن إيران فرضت خيارها بالعراق وإن المالكي سيكون رئيس الوزراء القادم، وإن الإدارة الأمريكية أحنت رأسها للعاصفة وقبلت بالمالكي على مضض، وإنها ستتخلى عن علاوي مرشحا لرئاسة الوزراء؛ ومن ثمة سقطت وعودها لبعض الأطراف السنية التي قبلت بمظلة علاوي رغم اختلافها مع تاريخه وطبيعة برنامجه.
إيران أثبتت أنها لاعب قوي في العراق، ليس فقط من خلال فوز الأطراف التابعة مذهبيا وسياسيا لها مثل أحزاب: الدعوة والمجلس الأعلى والتيار الصدري والفضيلة، وإنما، أيضا، تميزت إيران بأنها نجحت في إدارة ملف العراق في سياق حربها السياسية والدبلوماسية مع الإدارة الأمريكية والدول الأوروبية التابعة لسطوة البيت الأبيض.
فواشنطن توهمت أنها أجرت الانتخابات في العراق وفق مقاساتها، وأن النتائج ستسمح لها بالمرور إلى خطوة هامة في حربها ضد طهران، وهي خطوة تقليص قواتها من على الأرض والاكتفاء بأعداد محدودة في القواعد العسكرية مع توفير عشرات الآلاف من المرتزقة بغاية فتح باب الحرب على إيران دون أن تكون رقبة الولايات المتحدة على المقصلة.
وهذا يعني ألا يكون الأمريكيون بالعراق رهائن لهجوم إيراني محتمل، وأن يتولى المرتزقة "أو لنسمهم بالمصطلح الشائع العاملين في الشركات الأمنية" مهمة التعطيل والتخريب وتوتير الوضع الأمني، لكن الخطة الأمريكية كانت تفترض بالضرورة تشكيل حكومة عراقية "صديقة" تحوز القبول الإقليمي ويكون دورها الأساسي قصقصة أجنحة إيران في العراق وإلهاء الأطراف التابعة لها بقضايا ثانوية ذات تفاصيل تشريعية وقانونية ووقف هيمنتها على وزارات السيادة "الأمن، الجيش، المالية، النفط".
لكن المشروع الأمريكي مهدد بالسقوط في الماء مع التفوق الإيراني العالي في مجال المناورة وحبك التحالفات وقراءة بنود الدستور الذي صاغه بريمر على هواه وتركه مليئا بالمطبات، أو لنقل بوضوح إن إيران هي من مررت تلك المطبات ووضعت البنود الملغمة في طريقه، لكن بريمر، الكوبوي المغرور، وقع في المحظور من حيث توهم أنه وضع الدستور على المقاسات الأمريكية.
ورغم أن واشنطن حرّكت "صداقاتها" في المنطقة لدعم علاوي قبل النجاح في الانتخابات وبعدها، لكن السخاء السعودي و"الود" السوري لم يفلحا في تقوية علاوي والجبهة التي شكلها والصعود بها إلى هرم السلطة، بل إن هذه الجبهة مرشحة للانفجار الآن، خاصة مع تلميحات طارق الهاشمي في تصريحاته المختلفة بأن لا مشكلة له مع حكومة يشكلها المالكي.
والحقيقة التي تتخفى عن أعين البعض أن "قائمة" علاوي هي في عمقها قائمة سنية أضيف إليها بعض "العلمانيين" المرتبطين تاريخيا بأمريكا ودول "الاعتدال" الخليجي، وبعض البعثيين "التائبين" الذين وضعوا الساق في الركاب الأمريكي، وحاولت تقديم نفسها في صورة الجبهة غير الطائفية ملوحة بشعارات الوطنية، والعمق العربي، ومحاربة الطائفية.
وقراءتنا للاتجاهات الحدث أن الهاشمي هو من سيقرأ الفاتحة على روح هذه "القائمة"، فهذا الرجل ذو الخط الإخواني البراغماتي الذي يبحث عن "المصلحة"، ولو لدى الشيطان "الإيراني والأمريكي على السواء"'، سوف يدير ظهره لعلاوي وجماعته ويلتحق بحكومة المالكي، خاصة أن واشنطن ومن ورائها الرياض ستتعاملان مع الحكومة "الإيرانية" الجديدة وستحاولان اختبار فاعلية الوعود التي يقدمها السيد المالكي، وسيكون الهاشمي همزة الوصل المتقدمة بين الطرفين.
وبالنتيجة، فإن الخيار الإيراني هو الذي تحقق على الأرض، بقطع النظر عن تصريحات السيد المالكي ووعوده وتطعيمه للحكومة بوجوه "أمريكية" أو "سنية معتدلة" و"الجفاء" الذي قد تبديه مصر أو السعودية أو سوريا.
لقد سقطت مسوغات التهدئة التي قادت أطرافا سنية مقاومة إلى دخول لعبة التطمينات الخليجية الأمريكية والتي غيرت بوصلتها من أطراف مقاومة للاحتلال الأمريكي البريطاني إلى أداة أمريكية في حرب طائفية يعود ريعها لفائدة واشنطن في معركتها ضد طهران كقوة صاعدة إقليميا.
وسيكون مصير الصحوات، التعبيرة الأمنية للتقارب الأمريكي السني، مصيرا معقدا؛ ولن يقف الأمر عند منع إدماجها في قوات الأمن والجيش بل ستكون مناط استهداف مزدوج لوجودها من القوات "الحكومية" ذات الصبغة الطائفية الشيعية "المعبّرة عن مصالح طهران" من جهة أولى، ومن تنظيم "القاعدة" والتعبيرات السلفية الأخرى التي رفضت أن تسير في الركب الأمريكي من جهة ثانية واستمرت في المواجهة المفتوحة مع الوجود الأمريكي.
وبالتأكيد فإن كسر تحكم الصراع الأمريكي الإيراني في مختلف مفاصل اللعبة السياسية والأمنية وقيادته العراق، لن يتم إلا من خلال تشكل جبهة وطنية عراقية مقاومة للوجود الأجنبي بالعراق "الأمريكي والإيراني" سياسيا وإعلاميا وتُخرج للعالم الصورة العراقية كما هي، كحرب تحرير وطني، وليس كفضاء للاستقطاب الأمريكي الإيراني، أو جزء من الحرب الأمريكية على الإرهاب.

خطة أوباما.. النفط مقابل العراق!

مختار الدبابي

لا تكاد تسمع على أفواه رموز الإدارة الأمريكية الجديدة سوى كلمات حاسمة عن الانسحاب من العراق خلال 16 شهرا.. وتأتي هذه الكلمات غامضة مبهمة، فليس هناك حديث عن تفاصيل الخطة ولا الضمانات التي تطلبها الإدارة الجديدة من أجل هكذا انسحاب حتى خُيّل لبعض الحالمين العرب أن أوباما ذا الجنوبية/ الأصول الشرقية سيعيد إلى هذا الزمن الأمريكي الكولونيالي المتوحش بهاء قديما كان ابراهام لنكولن الأسود مثله قاد ثورة لأجل صنعه ولو إلى حين.
وما إن ظهرت الإدارة الأمريكية الجديدة حريصة على أن تتكتم على التفاصيل، كان نبهاء العرب يستنتجون أن هناك شيطانا ينام في تلك التفاصيل وأن الانسحاب الموعود لا يعدو أن يكون انسحابا ملغوما.. وكعادة الوافدين الجدد إلى البيت الأبيض، فإنهم وبعد أن يطلقوا الوعود بـ\"التغيير\" و\"الديمقراطية\" ويجعلوا العالم يحلم معهم بزمن أفضل، يعمدون إلى إطلاق التسريبات هنا وهناك التي يفهم منها العارفون بالطبائع الكولونيالية أن غاية تلك الضجة هي إيهام الناس بأن زمنا جديدا قد بدأ ومن واجبهم أن يعطوه الفرصة الكافية لبداية \"التغيير\".
نتذكّر السيد بوش الابن كيف ملأ الدنيا وشغل الناس بحديثه عن الديمقراطية والإصلاح وأنه سيكون \"رسولا\" من أجل توسيع دائرة تطبيق هذه القيم وخاصة في المنطقة العربية الإسلامية، وبدأت تنعقد منتديات وملتقيات عن الإصلاح بعضها تلقائي وبعضها الآخر بإيحاء أمريكي، لكنه ارتد بعدها بأشهر قليلة دراغولا يلتذ بإسالة الدماء، ويتباهى بخرق الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، والتي ترفعها منظمات أمريكية سيفا مسلطا على رقاب دول العالم الثالث.. ويكفي هنا التذكير بجوانتنامو، والسجون السرية، والاختطافات على طريقة العصابات، وأبو غريب.. وغيرها كثير.
سمعنا السيد أوباما منذ أيام يبشّر بعالم جديد وبأمريكا وفية لقيمها مع نقد جلي للإدارة الماضية ليس فقط حول تعاطيها مع الأزمة الاقتصادية والفساد الذي ارتبط بها وكانت الشرارة الحقيقية التي أحرقت كل شيء، وإنما في نزوعها إلى الحروب، وخاصة الحرب على العراق.. هذه الحرب التي يجد الرئيس الأمريكي الجديد تجاهها أنه في ورطة وكأنه هو من خاضها ويريد أن يخرج منها، فخطابه التفاؤلي سواء خطاب اليمين، أو خطابه الثلاثاء الماضي أمام مجلسي الشيوخ والنواب، أو خطابه أمس جعله يؤكد أن الانسحاب أمر لا مفر منه وإن كان \"انسحابا مسؤولا\"، وهذا ما جعل أصواتا من داخل \"الصقور\" تحذّره بينها منافسه على الانتخابات جون ماكين، والسفير السابق في بغداد ريان كروكر الذي قال إن مخاطر جدية قد تترتب على انسحاب امريكي سريع من العراق بما في ذلك تعزيز مواقع \"تنظيم القاعدة\" وتقويض السعي نحو تأسيس مجتمع مستقر.
وكان كروكر يتحدث للصحفيين قيامه وعدد من كبار ضباط الجيش الامريكي باطلاع الرئيس اوباما على الوضع في العراق.
والسؤال المطروح هنا: ما معنى \"الانسحاب المسؤول\"؟
إنه مفهوم غامض سيتم عبره الالتفاف على القرار \"الشجاع\" الذي سبق إعلانه في سياق الحملة الانتخابية وأيام التنصيب وأداء اليمين، وهي فترة كان فيها أوباما نجم المستقبل.
وفي قراءة لما يرشح هنا وهناك من تصريحات وتسريبات وكذلك من خلال التدقيق في نص الاتفاقية الأمنية التي سبق للمالكي وبوش أن أمضياها سويا ولم يتبرّأ منها أوباما ولا تحدث عنها أصلا، فإننا نقدر أن تكون مفاصل خطة أوباما كالتالي:
1 – الحصول على ضمانات عراقية قبل الانسحاب، ومن هذه الضمانات وأهمها ترك حكومة \"صديقة\" في بغداد، وهذا يعني أساسا قطع الطريق أمام هيمنة إيران على المشهد السياسي العراقي وفرضها وجوها تابعة، ويقرأ الكثير من المحللين نتائج انتخابات المحافظات الأخيرة في العراق بأنها نجحت في تحقيق جانب من هذا الشرط الأمريكي فقد سقط الموالون لإيران بالضربة القاضية، وخاصة المجلس الأعلى الذي كان ورقة سياسية وعسكرية ومذهبية إيرانية بامتياز.
ومع تغذية خفية لتحالف بين المالكي والصدر من أجل وقف سطوة تيار الحكيم/ المجلس الأعلى، تكون الإدارة الأمريكية قد دقت الإسفين في نعش التحالف الشيعي وهدمت أركان الثقة بين أفراده وأحزابه ومليشياته، ومن السهل عليها بعد ذلك تهميش التيار الصدري والقضاء عليه في ظل تذبذب قيادته وقصورها الفكري، فهي تارة في قلب العملية السياسية وتارة خارجها، وأحيانا أخرى نجدها تتقرب من الحركات المقاومة.
ويجري حديث عن أن السفير الأمريكي الجديد هيل سيواصل مهمة كانت غاية في السرية لسلفه كروكر، وهي انفتاحه على وجوه الصف الثاني من النظام السابق \"وجوه سياسية وعسكرية\" من أجل إعطائها دورا \"مؤثرا\" في السلطة يمنع انتكاسة الفريق الشيعي في الحكومة وعودته باتجاه إيران، والدليل هو عودة جماعية لأفراد الجيش السابق إلى السلك العسكري، وسريان مفاوضات بعيدة عن الأضواء بين شخصيات أمريكية ووجوه بعثية سابقة تقيم في دول الجوار العراقي تم التغاضي عن محاكمتها وتركها خيارا بديلا.
ولا يستبعد أن يتم تشكيل حكومة عراقية بمواصفات أمريكية تجمع كل هذا \"الموزاييك\" بعد الانتخابات التشريعية القادمة المقررة لآخر العام.
2 – نأتي الآن للضمانات الأمنية والتي تعني إبقاء وجود أمريكي \"فعّال\" لمنع التلاعب بـ\"الصداقة\" الأمركية العراقية وعودة إيران أو صعود \"القاعدة\" أو أي تيار متشدد شبيه بها، ولهذا تتحدث تسريبات إعلامية عن رغبة إدارة أوباما في الاستفادة من نقاط قوة الاتفاقية الأمنية، وخاصة ما يتعلق بالامتيازات القانونية التي يحصل عليها الجندي الأمريكي وحصانته أمام أي عمل عسكري ينهض به.
وهذه \"الاستفادة\" تجد مبررات لها في الاتفاقية/ الملحق التي أبرمتها إدارة بوش مع حكومة المالكي بعد نهاية التفويض الأممي للقوات الأجنبية، وهي اتفاقية تقول إن الحكومة العراقية يحق لها التمسك ببقاء أي قوات أجنبية، وبالنتيجة فإن القوات الأمريكية المرغوب فيها عراقيا لن تنسحب بالكامل بل ستترك قوات للضرورة، وعدد هذه القوات قد يصل إلى 50 ألفا مثل ما تقول بعض التقارير، بالإضافة إلى قواعد عسكرية يركن لها هؤلاء حتى \"ينسحبوا\" من التراب العراقي، ويتحكموا بعد ذلك في الأجواء والحدود البرية والبحرية.
وهي نتيجة سبق للمفكر الأمركي نعوم تشومسكي أن اشار لها في تعليقه على الاتفاقية الأمنية و\"وثيقة المبادئ\" حين قال \"هذه الوثيقة فتحت المجال أمام احتمال بقاءٍ طويل الأمد وغير محدّد للقوات الأمريكية في العراق، وهو بقاء من المفترض أن يشمل القواعد الجوية الضخمة التي تُبنى حالياً في أرجاء البلاد، و\"السفارة\" في بغداد التي تعدّ فريدةً من نوعها بين سفارات العالم، نظراً إلى أنّها أشبه بمدينة ضمن مدينة. فهذه القواعد وهذه السفارة لا تبنى ليتمّ التخلّي عنها لاحقاً\".
3 – ويضع تشومسكي الإصبع على الهدف الأبرز لهذه الاتفاقية، ومن ورائها عملية الغزو ككل، وهو استغلال امكانيات العراق، إذ يقول \"ناهيك عن أنّ الوثيقة تضمّنت إعلاناً عن استغلال ثروات العراق لافتاً لوقاحته، فقد نصّت على أنّ اقتصاد العراق، أي موارده النفطية، لا بد من أن يكون مفتوحاً أمام الاستثمار الأجنبي، \"خاصة الاستثمار الأمريكي\".
وفي هذا الإعلان ما يشبه القول إننا غزوناكم، كي نسيطر على بلدكم، ويكون لنا امتيازُ الوصول إلى مواردكم، أو أعطنا النفط نعد لكم العراق، ما يعني معادلة النفط مقابل العراق، وهو ما يبدو أن إدارة أوباما ترفعه، قياسا على برنامج النفط مقابل الغذاء.
وواضح هنا أن إدارة أوباما تريد تحقيق المكاسب الاستراتيجية مستغلة التفاؤل الساذج بالزمن الأمريكي الجديد، وهناك مخاوف من أن تنجح هذه الإدارة في دفع الفرقاء العراقيين \"المتفائلين\" بـ\"التغيير\" الأمريكي إلى تمرير قانون النفط أمام البرلمان العراقي، أو تفويض الحكومة لإبرام الاتفاقيات النفطية طويلة المدى مع الشركات الأمريكية والعالمية الكبرى التي ساندت الغزو ومولته وقادته عبر أبرز رموزها في فيلق المحافظين الجدد.
للإشارة، فإن السيطرة على النفط العراقي سيسمح لها بالتحكم من خلاله في اسعار النفط العالمية، ورهن الواردات النفطية بالنسبة إلى الاقتصاديات العالمية الكبرى، خاصة أنها تهيمن على حركة النفط الخليجي، ليس فقط من خلال اتفاقياتها السرية والعلنية، وإنما، ايضا، من خلال القواعد العسكرية المزروعة على طريق النفط قبالة مضيق هرمز الذي تلوح إيران بغلقه، وهو تلويح يساوي آليا انطلاق حرب جديدة.
والنتيجة، كما يقول الخبراء، أن اسعار النفط ستنخفض الى أدنى مستوى وسيصل النفط الخليجي الى أمريكا بأبخس الأثمان مما ينعكس في النهاية على المستوى الاقتصادي لهذه الدول وهذا سيؤدي الى إضعاف الدول الخليجية والدول العربية عموما حيث تمثل الدول الخليجية القوة الاقتصادية للدول العربية...
ومن المستحيل أن يدير الرئيس الجديد الظهر لهذه \"المنافع\" الأمريكية ويقر سريعا الانسحاب، خاصة أنه يأتمر بأوامر الأجهزة المتعددة التي تصنع القرار، فمثل هذه الخطوة تعني آليا أن أوباما وخبراءه الاستراتيجيين قرروا العودة إلى المربع الصفر، مربع تعدد الأقطاب والتفويت في زعامة العالم، وهو ما يتناقض مع الدراسات الاستراتيجية المتعددة وآراء الخبراء، من ذلك أن ألان جرينسبان الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي يعلن أن الحرب على العراق لم تكن سوى من أجل النفط.
وقال في كتابه \"عصر الإضرابات\" مفسرا خفايا قرار حرب 2003 على العراق انه بغض النظر عن قلق بريطانيا وأمريكا المعلن بشأن أسلحة الدمار الشامل الخاصة بصدام حسين.. يحزنني أنه ليس من المناسب سياسيا الاعتراف بما يعرفه الجميع وهو أن حرب العراق كانت الى حد كبير من أجل النفط.
ويسجل جرينسبان مقولة الرئيس الامريكي جورج بوش.. ادماننا للنفط هو الذي يجعل لمستقبل منطقة الشرق الاوسط اعتبارا أكثر أهمية في أي توقع طويل المدى للطاقة قائلا ان أي أزمة نفطية تشكل ضررا بالغا بالاقتصاد العالمي.
ومن المؤكد أن المقاومة العراقية ومختلف ألوان الطيف الوطني العراقي سيقرأ رسائل أوباما وتسريباته المتعددة قراءة سليمة ويكتشف أن خطة أوباما التي توهم بـ\"التغيير\" تجاه العراق لا تعدو أن تكون حركة \"ذكية\" تعيد إنتاج الاحتلال، ولكن في صورة أسوأ لأنها تتخفى وراء الوعود والتطمينات والشعارات وتتشبّث بالمكاسب والقواعد.

أسرار هروب الأموال العربية إلى البنوك الأمريكية

مختار الدبابي

أسرار هروب الأموال العربية إلى البنوك الأمريكية.. "فوربس": ثروة 20 مليارديرا عربيا 123 مليار دولار
ضمت القائمة الجديدة التى أعدتها مجلة "فوربس" حول أغنياء منطقة الشرق الأوسط، 20 ثريا عربيا بلغت حجم ثرواتهم الإجمالية 123 مليار دولار حتى شهر آذار/مارس الماضي.
تصدر الملياردير السعودى الأمير الوليد بن طلال، رئيس مجلس إدارة شركة المملكة القابضة قائمة هؤلاء الأثرياء بثروة بلغت 20.3 مليار دولار، واحتل رجل الأعمال الكويتي، ناصر الخرافى وعائلته المركز الثانى بثروة تساوى 11.5 مليار دولار.
وحل فى المرتبة الثالثة رجل الأعمال المصرى نجيب ساويرس وبلغت ثروته 10 مليارات دولار.
وتمركز أثرياء المنطقة العشرون فى ستة بلدان، وجمعوا ثروتهم من تسع صناعات، وبلغت ثروتهم 123 مليار دولار فى مارس/آذار لهذا العام، وزاد صافى ثروتهم عن العام الماضى بواقع 10%. ويمثل إجمالى صافى ثروتهم 64% من الثروة الإجمالية لأثرياء المنطقة الذين يبلغ عددهم 65 مليارديرا.
ومن اللافت، أن الوحيد ضمن القائمة وهو محمد العامودى الذى صنع ثروته من النفط، فى حين أن البقية استفادوا من الأموال المتدفقة فى المنطقة بسبب ارتفاع أسعار النفط.
وهذه الحقيقة واضحة بشكل خاص فى السعودية التى تعتبر موطنا لـ25% من احتياطى النفط فى العالم، وتضم سبعة أثرياء فى القائمة.
وعادة ما تتبع إصدار قائمة "فوربس" أسئلة مهمة فى الساحة العربية: أين تذهب أموال العرب، وفيم يتم استثمارها وكيف تنعكس على تطوير الاقتصاديات العربية؟
وفى الوقت الذى تسعى فيه الدول العربية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية لتدعيم اقتصادياتها من خلال إمضاء اتفاقيات شراكة مع دول وتكتلات غربية، وفى الوقت الذى تتجاوز فيه ديون الدول العربية 560 مليار دولار ما بين خارجية وداخلية نجد أن الاستثمارات العربية فى الخارج تفوق التريليون دولار وبشكل تصاعدي.
لماذا هاجرت هذه الأموال؟ وما مستقبلها؟ وهل ستعود مرة أخرى أم ستظل حبيسة فى بلاد الغربة؟
هذه الأسئلة تجد مشروعيتها وإلحاحيتها من التداعيات التى خلفتها أحداث سبتمبر الإرهابية، وقد سادت تخوفات من وضع اليد على الكثير من هذه الاستثمارات وتجميدها فى سياق الحرب المحمومة على "الإرهاب"، هذا فضلا عن تحولها إلى ثقل مالى فى اقتصاديات الغرب ما يجعل من المستحيل أن يتنازل عنها أو يساعد فى عودتها..
ليس هناك أرقام أو إحصائيات دقيقة حول الأموال العربية المهاجرة؛ ولكن هناك بحوث اقتصادية عربية تقدم أرقاما تقريبية تقول إن حجم هذه الأموال يتجاوز تريليون دولار بقليل، فيما تقدر هيئات أخرى حجم الأموال الخليجية المهاجرة فى الخارج فقط بنحو "1.4" تريليون دولار، بينها "750" مليار دولار سعودية، حوالى "450" مليار دولار منها تستثمر فى الولايات المتحدة، و"255" مليار دولار فى أوروبا، وكانت المؤسسة العربية لضمان الاستثمار فى الكويت قد ذكرت فى تقرير لها أواخر العام 2004 أن حجم الثروات العربية فى الخارج بلغ نحو "1.4" تريليون دولار، كان نصيب دول مجلس التعاون الخليجى من هذه الثروات يتراوح بين "800" مليار وتريليون دولار.
وسواء أكانت الأرقام أكثر من ذلك أو أقل فإن غياب رؤوس الأموال العربية ترك فراغا رهيبا أثر ولا شك على نسق التحولات، داخل الدول الخليجية "مركز ثقل رؤوس الأموال الكبرى" أو فى بقية الدول العربية.
وفيما يقول المتشائمون إن تلك الأموال تذهب بقرار سياسى إلى البنوك الغربية وخاصة الأمريكية لتساهم فى تقوية وضع أسواق الدول التى تقف ضد قضايانا القومية وتحولنا إلى أسواق استهلاكية جذابة وترتهن تطور اقتصادياتنا وعملاتنا وتجعلنا دائما سلة لإنتاجاتها وحتى أزماتها "أزمة الدولار الحالية التى تضع الأسواق الخليجية على كف عفريت"، فإن الحقائق على الأرض تقول إن واقع العرب الاقتصادى والإدارى لا يتحمل تكدس أموال النفط بأحجام كبيرة تماما مثلما يعجز عن تقبل الكفاءات والأدمغة.
هناك قضية مركزية تدفع رأس المال العربى إلى الهروب وهى أن الفضاء الاقتصادى العربى ما يزال فضاء مذبذبا تتحكم فيه البيروقراطية وهشاشة القوانين وغياب التسهيلات والحوافز، فضلا عن ضعف البنية التحتية، وسيطرة الدولة على مفاصل الحياة.
وإذا عرفنا أن الدولة العربية لا تمتلك مواصفات الدولة الحديثة خاصة الحياد، نفهم مخاوف أصحاب رؤوس الأموال من سطوة العائلات والعشائر المتشابكة مع السلطة واحتكار القضاء والقوانين والتحكم فى فوائد الاستثمار وتوسع دائرة الوسطاء الوهميين.
وفى مقابل هروب المال العربي، تدفقت إلى الوطن العربى فى العقد الأخير استثمارات أجنبية أكثر مما استثمر العرب أنفسهم داخل الوطن العربي؛ وهى استثمارات مربكة للاقتصاديات المحلية العربية، فهى تأتى بشروط لا تتحملها حركة الأسواق العربية ويسهل عليها ابتلاع الرّساميل المحلية الصغيرة خاصة وأغلبها مرتبط بالشركات العابرة للقارات.
والأهم هنا، أنها تأتى فى اطار اتفاقيات شراكة تعفيها من الأداءات وتقدم لها التسهيلات الخرافية ما يجعلها تتحكم فى اقتصادياتنا وحتى فى قراراتنا السياسية.
لكن من المهم الإشارة أيضا، إلى أن المنطقة العربية بدأت تتخلص من السلبيات السابقة خاصة فى الجهة الغربية منها حيث أصبحت دول مثل تونس والمغرب نموذجا فى احترام مقاييس الشفافية وإغراء الرأسمال العربى والأجنبى معا بسلسلة من الحوافز والتسهيلات.
ونجحت الادارة السياسية بهما فى خلق مناخ اقتصادى يتحمل المنافسة وينخرط فيها بيسر ويجعل الاستفادة من الرأسمال العربى والأجنبى استفادة دعم وتطوير لا استفادة رهن واحتكار.
وتُعدّ السعودية والإمارات فى طليعة الدول العربية التى تصدر الاستثمارات للعالم العربى ويتركز جهدها على قطاع الخدمات والتكنولوجيا والعقارات وإذا أخذنا نموذجا الاستثمارات الإماراتية فى تونس سنجد أنها شملت مشاريع ضخمة أبرزها مشروع سماء دبى الذى يتكلف 14 مليار دولار.
ويركز الخبراء الاقتصاديون العرب فى لقاءاتهم ودراساتهم الاستراتيجية فى محاولة للقطع ما حالة الارباك على اهمية دعم وتوسيع الاستثمارات العربية البينية مؤكدين على ضرورة تهيئة المناخ الاقتصادى المناسب وتسهيل الاجراءات القانونية لعودة رؤوس الاموال العربية من الخارج.
كما يطالبون بتفعيل إقامة منطقة للتجارة الحرة العربية الكبرى على أرض الواقع ما من شأنه أن يشكل قفزة نوعية وعملية فى علاقات التكامل والتعاون العربى المشترك فى جميع المجالات، على أن تكون لبنة لحلم السوق العربية المشتركة التى بقيت حبيسة أدراج الجامعة العربية. ويرى الخبراء أن ارتفاع أسعار النفط إلى حدود مئة دولار سيخلق فائضا إضافيا من الأموال العربية يمكن توظيفها فى المنطقة، لكن الأمر يستدعى تسريع التفاهمات السياسية، فهناك حالة برود فى العلاقات البينية منها ماهو من مخلفات حرب 1990- 1991، ومنها ما هو ناجم عن خلافات حول الحدود التى رسمها الاستعمار ومنها ما هو ناجم عن قصور فى الاستشراف والتوقع.
فالدول الخليجية، مثلا، ما تزال تتحرك ببطء فى الانفتاح المالى على المغرب العربى رغم كونه أصبح قبلة الاستثمارات الغربية، الأوروبية والأمريكية على السواء.
فهل يضع العرب محاذير السياسة جانبا ويتفرغون لعلاقات اقتصادية بينية قوية يحلم البعض أن تتحول إلى وحدة أو حتى اتحاد؟
العقود القادمة قد تحمل بعضا من الاجابة فتدعم التفاؤل أو تنتصر للتشاؤم.

حرب بالوكالة: مواجهة بين واشنطن وطهران وقودها العرب

مختار الدبابي

لم يخيّب الرئيس الأمريكي الجديد الظن وسرعان ما اختار أن يفتح الطريق أمام الحرب من جديد ليؤكد لمن يؤمنون بنظرية المؤامرة أن حدسهم لا يخيب أبدا لأن الولايات المتحدة قامت على الحرب ولن تعيش دون حرب.
وهكذا نجد أنفسنا أمام بوش آخر، حتى وإن تغيّر لون البشرة وتجدد فريق العمل وتلونت الشعارات بدءا من البكاء حول صورة أمريكا التي تلوثت بفعل الأخطاء القديمة، مرورا بفشل الحرب في العراق، وصولا إلى الكارثة الاقتصادية.
الحرب الجديدة التي اختارها السيد أوباما ستكون على إيران، ويريد ألا تسيل فيها الدماء الأمريكية على أن تتفرق دماء الإيرانيين بين القبائل العربية، وهي قبائل فعلا وليس في التوصيف مجاز ولا استعارة..
هذه الحرب يمكن أن نطلق عليها حربا بالوكالة، ويكفي بأن نستدل بهذه القمم العربية الثنائية والثلاثية والرباعية التي تُعقد هنا وهناك وترفع شعار المصالحة وتنسيق المواقف وتقديم المتفق عليه على المختلف به لنكتشف أن الوجهة القادمة للعمل العربي \"المشترك\" ليس ضد إسرائيل ولا ضد أمريكا ولا ضد الأزمة الاقتصادية وإنما ضد إيران.
هناك رغبة ملحة في احتواء الأطراف التي تنتمي إلى ما يسمى بحلف الممانعة وتشترك مع إيران في الموقف تجاه ما يجري في القضايا المختلفة، فهذه بريطانيا تعرض التحاور مع حزب الله وتفتح نافذة للحزب المغضوب عليه لينفتح على العالم الغربي الذي كان دائما يتعامل معه كتنظيم \"إرهابي\" تابع لإيران.
الخطوة البريطانية تحاول اختبار ردة فعل حزب الله وتبيّن حجم موالاته لطهران، فضلا عن تقصي ملامح ما تبقّى من ثورية لدى حزب بدأ يكتفي بالدور القطري ويحارب من أجل أماكن إضافية في البرلمان ويجعل من السيطرة على شركات الاتصال هدفا رئيسيا.
لكنه في حرب غزة الأخيرة لم يطلق صاروخا واحدا لتخفيف الضغط عن حليف آخر لطهران في محنته رغم أن الجماهير العربية التي رقصت طربا لانتصاره سنة 2006 كانت تنتظر دورا قويا منه يرغم إسرائيل على أن تنسحب مهزومة..
اختفت \"الثورية\" واكتفى زعيم الحزب السيد حسن نصر الله بإلقاء خطابات يهاجم فيها النظام المصري ويستغرب كيف لا يشارك في فك الحصار الذي فرضته إسرائيل على غزة اقتصاديا وعسكريا.. فيما يكتفي هو وحزبه بالفرجة وإلقاء النصائح \"الثورية\".
السياسة البريطانية التي عُرفت عبر تاريخها بالدهاء لا تؤمن بالثورية مدى الحياة بل إن المصالح يمكن أن تُفرّق بين الأصدقاء وتجمع الأعداء، ولهذا ألقت بالطعم لحزب الله، وهي تنتظر الاستجابة خاصة أن طرفا أهم منه وأقوى في إدامة الحياة لفريق الممانعة، ونعني سوريا، بدأ يتفاعل مع المغازلة التي تأتيه من كل الاتجاهات لفك الارتباط مع طهران.
سوريا تحولت إلى قبلة للزيارات والوفود، والأسد صار نجم اللقاءات العربية، والغزل والإغراءات صارت على المكشوف.
مع العلم أن العناية المفرطة بسوريا بدأها ساركوزي منذ الصائفة الماضية حين استقبل الرئيس بشار الأسد في الإليزيه وجعله نجم الاحتفاء بتأسيس الاتحاد من أجل المتوسط ثم الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي.
لكن الإغراءات الأوروبية الأمريكية التي كان ساركوزي عرابها لم تتجاوز حد الوعود والإيحاءات والافتراضات، لكنها كانت تطلب تنازلات سورية عملية في ملفي لبنان والعراق، وطبيعي أن تخبو الموجة لتجدد الآن بفاعلين جدد.
وواضح أن أطرافا عربية معتدلة وثرية حملت على عاتقها تنفيذ الجزء الرئيسي من الحرب بالوكالة على طهران، وأولى عناصرها غرس النزاعات داخل فريق الممانعة وإغراء أطرافه وخاصة الطرف القوي، ونعني سوريا، ولا نستبعد أن تعرض هذه الدول إغراءات فعلية تنفّذ مباشرة حال التفاعل السوري، ولا تقف تلك الإغراءات عند الأموال، أو الأسعار التفاضلية والهبات النفطية، بل تمتد إلى عرض سخي آخر هو إعطاء دمشق دور سياسي متقدم في \"جنة\" الاعتدال والشرط يسمح بذلك خاصة في ظل انكفاء الدور المصري وترهله، وهو ما يجعل الأمريكيين يقبلون التضحية به بسهولة ويسر.
وفضلا عن هذا فإن الترضية الأمريكية جاهزة لدمشق لو أشرت بالإيجاب، وهي استعادة الجولان عبر التفاوض المباشر مع إسرائيل.
ونحن نتحدث عن العروض العربية والغربية لدمشق، لا نستطيع أن نجزم بالتفاعل السوري السريع، فهذا البلد يتقن اللعب على التوازنات الدولية والإقليمية، وانحيازه للقضايا العربية وإن فرض عليه الكثير من التضحيات، فإنه يشكل الضمانة الأساسية للدور الإقليمي الراهن والذي لا غنى عنه عربيا ودوليا.
لا يمكن هنا أن نستهين بالحرب الخفية التي تجري على قدم وساق لخنق طهران وقصقصة أجنحتها، ففضلا عن إغواء وشق حلف الممانعة، ستتلقى طهران صفعة لاذعة من العراق الذي مثّل في السنوات الست الأخيرة ملاذها الآمن، فقد ساعدت الغزو ودعمت الفوضى لتجعل الولايات المتحدة في ورطة يصعب عليها فيها استهداف طهران ومهاجمتها، بل الاستعانة بها والتنازل لفائدتها..
إيران أحكمت اللعبة من خلال تدعيم الموالين لها وتسهيل مهمتهم في السيطرة على حكم العراق الجديد، لكن المراجعات الأمريكية التي بدأت مع تقرير لجنة بيكر – هاملتون توصلت إلى قرار الانسحاب \"المسؤول\" بما يلغي كل مبررات طهران في تغذية وتعميق الفوضى والخلافات، وزيادة على ذلك فإن واشنطن نجحت في تهميش الأحزاب والمليشيات المقرّبة من طهران، وتكفي الإشارة إلى أن انتخابات المحافظات الأخيرة في العراق صعّدت البراغماتيين والليبراليين ومعادي الأحزاب المذهبية (المجلس الأعلى، الفضيلة، التيار الصدري...).
والانفتاح الأمريكي المفاجئ على شق من التيار البعثي وتسهيل عودة الكادر العسكري والأمني القديم إلى الوزارات وتشجيع التحاق شخصيات مقربة من البعث بحكومة المالكي كلها عوامل تجعل من الانتخابات التشريعية القادمة أفقا للقطع مع النفوذ الإيراني في العراق.
وغير بعيد غيّرت واشنطن إدارتها للملف الأفغاني، فرغم إرسال 20 ألف جندي إضافي والوعد بعشرات الآلاف الآخرين والإيهام بأن القضاء على \"الإرهاب\" في أفغانستان هو الحرب الاستراتيجية، فإن الأمريكيين يعرضون علانية التفاوض مع طالبان وهم على استعداد للقبول بحكومة هجينية تجمع بين براغماتيي طالبان وأنصار كرازاي، والرسالة لا تحتاج إلى كثير من العناء لتفهم دلالاتها.
الإدارة الأمريكية قررت محاصرة إيران سياسيا وأمنيا لتحقيق الهدف الرئيسي الذي ظلت إسرائيل تذكّر به بوش قبل أن يغادر ورمت به في عنق أوباما منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، وقد تسربت تقارير مباشرة بعد أدائه اليمين الدستورية تقول إن تل أبيب منحته 3 أشهر ليقرر مهاجمة النووي الإيراني وإلا فإنها ستتولى المهمة بنفسها.
إن الوجود الأمريكي المكثف في أفغانستان وباكستان لن يقف دوره عند حد التهديد الأمني الذي صار مثل الطوق (قوات وقواعد في العراق والخليج وتركيا وباكستان وأفغانستان)، بل سيحقق هدفا آخر أكثر تأثيرا، وهو منع النفط والغاز وحركة التعامل التجاري مع الهند والصين واليابان وربما روسيا التي عرضت عليها واشنطن صفقة كبيرة مقابل تجميد دورها في تجهيز مفاعل بوشهر.
هذا التوصيف الدقيق أردنا من خلاله التأكيد على أهمية الدور العربي في خنق إيران، أو تفويت الفرصة على خنقها وما للخيارين من تأثيرات استراتيجية على المنطقة ككل وعلى العرب.
خنق إيران ليس في مصلحة العرب بل يضر بقضاياهم المصيرية، وبقطع النظر عن دورها السلبي في العراق ومحاولتها إثارة الفتن المذهبية لزعزعة الأمن الخليجي، فإن محاصرتها مقدمة لضربها كما حدث مع العراق يعني غياب أقطاب إقليمية عدا إسرائيل، أي فسح المجال أمامها لتصبح القطب الأول والأساسي، وهذا يعني فرض التطبيع معها وتعويم القضية الفلسطينية بالشكل الذي تريده، وفتح الأسواق العربية أمامها وكسر الثقافة العدائية تجاهها.
وهذا يعني أن القيادات العربية المعتدلة قدمت المنطقة على طبق من فضة لإسرائيل وخلقت الشروط الموضوعية لإقامة الشرق الأوسط الجديد الذي حاولت إدارة المحافظين الجدد طيلة ثماني سنوات من الحرب والضغوط تمريره ليأتي أوباما بأسلوب وضع السم في الدسم ويحققه بيسر بفعل تفاني الدول العربية \"الكبرى\" في خدمة السياسات الأمريكية مقابل الحفاظ على استقرارها في السلطة وضمان عدم إثارة الولايات المتحدة لقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والتناوب على السلطة ضدها، أي تعوّم القضايا الكبرى وتقدمها رشاوى للإدارات الأمريكية المتعاقبة.
لكن قراءة هذه الأنظمة للمستقبل قراءة خاطئة ومضللة، فانهيار الأقطاب الإقليمية الأخرى يعني آليا أن الدور الخدماتي الذي ينهض به الفريق المعتدل لن يكون له فائدة في المستقبل، ففيم ستحتاجهم أمريكا إذا سقط صدام ثم إيران وتم تعويم الدور التركي؟
إن هذا الدور هو عبارة عن لعب بالنار ليس فقط بمستقبل المنطقة، بل بمستقبل العائلات والعشائر الحاكمة، مع العلم أن استمرار اللعبة بصورتها الحالية تقدم أكبر خدمة للتيار المتشدد الذي يهدد باجتياح الفضاء العربي الإسلامي من جديد، ولعل التفجير الذي حدث مؤخرا في أحد الأسواق المصرية أبلغ رسالة على أن حركة \"الجهاد\" قد تعود في ثوب جديد، وقد تترك مكانها للقاعدة، تماما مثل حماس التي تحاول التمسك باعتدالها والمرونة في التعاطي مع الظرف، لكن الضغوط العربية (المصرية أساسا) قد تدفع حماس إلى التنازل كما فعلت فتح، وهذا يعني صعود تيار من الصقور الفلسطينيين الذين لا يؤمنون بالتفاوض ولا بالرعاية العربية التي صار هدفها تطويع القضية المركزية للشروط الإسرائيلية.
مع الإشارة هنا إلى ان رسائل دقيقة وهادفة يطلقها أوباما باتجاه \"الإسلام السياسي المعتدل\" تفيد بانفتاح محتمل عليه \"والتوسط\" على المستوى القطري لوقف الضغوط الرسمية تجاهه، وتخفي هذه الرسالة التي قد تبقى حبرا على ورق رغبة في تحييد هذه الحركات في الصراع القادم، خاصة أن أخطاء طهران المذهبية تعطي مسوغات كثيرة لنجاح خطة أوباما.
إن موجة العداء المتصاعدة ضد طهران موجة موجّهة أمريكيا وإسرائيليا، وهي تتسقّط الأخطاء الإيرانية المتكاثرة، وخاصة التصريحات العدائية تجاه البحرين والإمارات ومصر، من أجل خلق ذات الشروط التي سمحت بضرب العراق والإطاحة بصدام.
وإن كنا لا ننتظر أن يغيّر الإيرانيون أسلوبهم في استفزاز الدوائر العربية، فإننا نتمنى أن تتولى القوى العربية والإسلامية الفاعلة مهمة الضغط لمنع تحول العرب إلى كومبارس تتم عبره تصفية الحسابات شرقا وغربا.

أوباما لــن يخــوض حروبكم أيها العرب!

مختار الدبابي


سجلنا فرحا عارما لدى الكثير من العرب بعد فوز باراك أوباما، وكأنما الذي وصل إلى البيت الأبيض مناصر لقضايا العرب، أو أن اللوبي العربي الإسلامي هو الذي أوصله إلى السلطة، وليس اللوبي الصهيوني الذي ذهب باراك "حسين" أوباما لأجل أصواته وماله إلى إسرائيل وراح يتمسح على أعتاب "حائط المبكى".
ليس هناك شك في أن العرب بلا ذاكرة، بمن في ذلك أغلب الكتاب والمثقفين الذين هللوا وما يزالون لصعود هذا الأسمر إلى البيت الأبيض فنحن دائما نفكّر باللحظة التي نعيشها، وتقودنا العاطفة إلى التصفيق والهرولة وراء ما ظهر من الصورة..
ليس غريبا أننا، الأمة التي رفعت اللاءات وهددت برمي أعدائها في البحر، نسيت شعاراتها وتهديداتها، وأصبحت تتعايش مع العدو الاستراتيجي "صديقا" وتأكل من تفاحه وتغدق عليه نفطها وغازها ومبادراتها، وأن تصفق لصعود أصدقائه إلى السلطة وأن تشرب على نخبه...
هذا الذي صفعنا صفعة قوية منذ أن ظهر في الصورة "الديمقراطية" وألبسناه لبوس "الإسلام" وكدنا نقسم للعالم أننا ختنّاه وأدخلناه ديننا، لكنه يمارس التقية، كما نمارسها نحن لنقتل بها بعضنا أفظع قتل، لكن الرجل أعلن ولاءه الكامل لإسرائيل وقال إن القدس عاصمتها الموحدة والأبدية وأنه سيقاتل لأجل أن تعيش في أمن وسلام!
أما سر وهمنا الحقيقي، فهو أن "القط الأسود" وعد بأن ينسحب من العراق، ونحن نمنى النفس، "وخاصة أولئك "المثقفين" الذين أشبعونا زمنا ما بوعود النصر"، بأن ينسحب الرجل فعلا ونقفز نحن إلى الواجهة ونقول إننا انتصرنا وحررنا وقاومنا وطردنا عدونا شر طردة..
ما أكبر الوهم.. ما أمرّ الحقيقة
هكذا بجرة قلم ينسحب أوباما من العراق ويرمى وراءه 5 سنوات من الخسائر والقتلى والجرحى والمعتوهين والمشوهين.. من أجل أن يكتب سيد البيت الأسود تاريخنا من جديد، ويسمح لنا أن نقول لأجيالنا القادمة إننا انتصرنا وأطردنا "مغول العصر".. ونجدد الوهم فينا ونظل أمة شعار وأحلام وأماني بأن نظل خير أمة أخرجت للناس.. ولكن على الورق!
قد يكون بوش أسوأ رئيس أمريكي، وقد يكون يكره أمة العرب لأنه يؤمن أن انتصار إسرائيل علينا هو علامة من علامات عودة السيد المسيح لينقذ العالم من الفساد.. قد يكون شعوره بأنه مبعوث إلهي قد زاد في عدائه لنا وعاملنا بقسوة وكراهية..
كل هذا معقول ومقبول، لكن بوش ليس هو من أعلن الحرب على العراق ولا أبوه من قبله، فأمريكا التي تقود العالم بالعلم والعصا معا، ليست من طينتنا نحن العرب الذين يفعل الحاكم الفرد فينا ما يريد ويشتهي حتى يعف عنا بكرم منه وطيبة معشر!
أمريكا دولة مؤسسات ومراكز بحث ودراسات إستراتيجية وخبراء وكونغرس ومجلس شيوخ، وما يفعله السيد بوش لا يعدو أن يكون تنفيذ أوامر وخطط مرسومة سلفا وصادقت عليها حكومة ظل وكل وزرائها ومستشاريها، فهي من فبركت حجج وبراهين كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق وقدمتها إلى كولن باول ليعرضها مزهوا، ويكتشف بعد خروجه من السلطة أنه كان بيدقا!
وبالتأكيد فإن باراك أوباما لن يكون أفضل حالا من بوش أو باول أو رايس أو تشيني، وسيمضى في طريق سلفه بوش من حيث السمع والطاعة لخبراء الظل، فإذا قالوا له لا تنسحب فلن ينسحب، وإذا قالوا له لملم أشياءنا قليلا فسيفعل وسيدعو آلافا من الجنود لينسحبوا على أن يتمركز البقية في القواعد العسكرية بعد أن تكون حكومة "الفتى الأسمر" قد أمضت على الاتفاقية الأمنية التي تمنع الاعتداء على الوجود الامريكى وتسمح للأمريكيين أن يعيثوا في الأرض والناس والقانون فسادا..
كان يمكن أن نقرأ الصورة بشكل مغاير ونتنبأ أن الاستراتيجيين الأمريكيين يشعرون بالورطة وأنهم فضلوا أن يصعد أوباما كوجه جديد وكرجل أسود و"ديمقراطي" ليخفف من وطأة إرث بوش، خاصة أن الأخير كان دائما يبشر بالنصر القريب، ويوهم أن العراقيين استقبلوا جيشه بالورود، وأن قلة من أتباع "القاعدة" هم من ينغص عليه صفاء النصر، ولم يعد بإمكانه أن يتراجع ويناور كما تفعل الجيوش، لا هو ولا ماكين الذي كان من الممكن أن يخلفه لو قررت قيادات الظل ذلك..
أوباما ما زال غفلا وفاقدا للخبرة، ويمكن أن يمسحوا فيه أخطاءهم، ويمكن أن يتخذوه مطية للتراجع وتقديم تنازلات لإيران أو سوريا، أو عباس، أو حماس، أو القاعدة، أو طالبان، أو المقاومة العراقية، بما يسمح لأمريكا أن تستعيد توازنها قليلا وتستعيد من ثمة المبادرة والمناورة.
لسنا ضد التنبؤ بأن يكون أوباما بوابة الانسحاب، أو أن الأمريكيين قرروا سر الانسحاب وجاؤوا بأوباما ليمرروه، أو أن المقاومة العراقية أوجعت المحتلين وتدفعهم دفعا إلى الرحيل، لكننا ضد التوهم الساذج بأن رجلا ما في أمريكا "حتى ولو كان رئيسها" يستطيع منفردا أن يعلن الانسحاب ويقول للعراقيين والفلسطينيين والسوريين والإيرانيين والأفغان نحن آسفون عودوا إلى قواعدكم واسترجعوا أراضيكم واحكموا شعوبكم كما أردتم وكنتم، ولا أحد يقترب منكم أبدا.
ومن المهم الإشارة إلى أن استبشارنا الواسع بصعود أسود إلى البيت الأبيض نابع من إحساس حقيقي بالعجز عن الوقوف في وجه قوة عالمية احتلت صدارة العالم وصارت الشرطي الوحيد، ولن نجاريها ولن نوجعها إذا لم نعالج قضايانا الحقيقية.
التحرير أولوية، لكن هذه الأولوية لا تتحقق في زمن عربي فاقد لأهم مقومات الحضارة، فقد فضحتنا الأزمات العالمية الأخيرة "أزمة الغذاء، أزمة النفط، أزمة العقارات"، ووجدنا أن اقتصادياتنا هشة وأننا لا نقدر أن نعيش لحظة دون إعانات أو قروض من الخارج..
الجوع كان سيتهدد ملايين العرب لو استمرت أزمة الغذاء قليلا، لأننا أمة تأكل من خيرات غيرها، وما نسمعه هنا أو هناك عن الاكتفاء الذاتي كان فرقعة إعلامية لتثبيت التخلف.
لو تصفحنا تقرير منتدى دافوس الأخير، لوجدنا أن دولا عربية كثيرة غارقة في الفساد الإداري وفاقدة للشفافية والنزاهة في توظيف المال العمومي، واقتصادها فاقد لمقومات المنافسة.
الأزمة المالية الأخيرة وقفنا فيها على مفارقة عجيبة، فبقدر امتلاكنا للمال الوفير وللودائع السمينة، فقد خرجت اقتصادياتنا مربكة لأن "القطط السمينة" في واشنطن لحست أموالنا وضحكت على ذقوننا..
هل تقدر أمة ينخرها التسلط والاستبداد أن تنهض بمهمة التحرير والتنوير والتطوير والتحديث، وكل شعاراتنا البراقة..
الأزمة الحقيقية تكمن في كوننا، على حد قولة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، أمة لديها القابلية للهزيمة وتبحث عن منقذ خارجها، فتارة تتعلق بقشة أمل دينية آتية من طهران التي أعطتنا مئات الأدلة والقرائن أنها دولة قومية فارسية وكفى.
وأخرى أيديولوجية قادمة من موسكو التي مثل اجتياحها أراضى جورجيا قادحا لأن نخرج ترسانتنا الأيديولوجية من أغمادها، لكن موسكو قبلت صفقة ما وانسحبت وخيبت ظننا فانكفأنا على أنفسنا خائبين..
وعدنا إلى الأمل مع أوباما على اعتبار أن الرجل أفريقي أسود، قد تكون أصوله عربية!
ولكن، للأسف لن ينهض الرجل بحروبنا، فهو وإن كان أسود، فعقله وقلبه وحلمه أبيض!

البشير.. خارج على العولمة

مختار الدبابي

ليس هناك شك في أن العولمة لم تقف عند كونها مفهوما اقتصاديا صرفا، بل توسعت لتتحول إلى ضاغط كوني يفرض على الثقافات المحلية أن تتخلى عن "انكماشها" وتندمج رغم أنفها في النموذج المعولم..

وميزة هذا النموذج أنه يريد أن يحكم العالم وفق آليات وقيم ومقاسات غير عالمية، بمعنى أنه لم يكن نتيجة تحولات حقيقية زاوجت بين التجارب المحلية في بلدان الشمال والجنوب، وإنما هو استنساخ لرؤى الرجل الأبيض ومناخاته الفكرية والحضارية وحتى الدينية ما يعني ضرب التنوع واختصار العالم في لوحة واحدة "الاقتصاد الواحد, السياسة الواحدة, الثقافة الواحدة, نمط المعيشة الواحد تكنولوجيا الانتاج و الأستهلاك الموحد و الميل الى "الغربنة" أو "الأمركة""1".

ثقافة الرجل الأبيض غيّرت في العالم الثالث الكثير، فقد طوّعت ذوقه ولباسه وطرائق أكله وحتى أحلامه، يكفي أن تجري استفتاء بين عشرات الناس من كل الشرائح والعائلات الفكرية والدينية العربية لتجد أن إدمانهم على تلفزيون الواقع حوّل اهتماماتهم إلى الربح السريع عبر برامج المسابقات التي تملأ الفضائيات العربية ببرامج مستنسخة، وعبر نمط جديد لإنسان متحرر ومنفتح وعلى استعداد ليفعل أي شيء من أجل أن يخرج إلى النمط الجديد.

ولقد قاتلت الثقافة المعولمة من أجل تذويب الخصائص الثقافية المحلية بما في ذلك الأديان التي "تم تطويعها لصالح رأس المال، فتمكنت الرأسمالية من احتلال الدين، وتسخيره لتبرير الحروب الاستعمارية بصيغ التبشير. وحين تدنى معدل الربح واتسع جيش العمل الاحتياطي، تم تسريح النساء من العمل إلى البطالة والعمل الجزئي، واستُنطق الدين ليقول: "إن المرأة الطيبة هي المرأة الكاثوليكية التي تجلس في البيت مع الأطفال وترضعهم" "2"

وعملت الإدارة الأمريكية طوال السنوات الثماني لحكم الرئيس بوش"الابن" على فرض الإصلاح الديني في السعودية، وهو إصلاح على غير المنوال الذي تطالب به قوى الإصلاح المحلية أو العربية، وإنما غايته امتصاص الروح العدائية التي تمتلئ بها برامج التعليم وخطب الجمعة وفتاوى الجهاز الديني بالسعودية، بما يهدد التحالف الاستراتيجي بين السعودية كطبقة سياسية والإدارة الأمريكية كقوة امبريالية معولمة.

وقد وصل الحد بإدارة بوش، وهي الأمينة على مهمة عولمة الدين إلى الدعوة لحذف الآيات التي تحض على الجهاد والحرب من النص القرآني.

وفي سياق توسّع العولمة وتمططها، شرعت في تذويب أهم عنصر يربط الفرد إلى هويته المحلية، ويجعل الدولة القطرية تتحكم في رعاياها وتروّج بينهم خطابها الثقافي والسياسي، وهذا العنصر هو عنصر العدالة والقانون كمرجعية خاصة لأي بلد حتى وإن تقاطعت تفاصيلها مع بعض بنود القانون الدولي.

إن العولمة، كمصطلح يخفي الهيمنة والعسكرية، تحاول بكل الجهد افتكاك عنصر القوة هذا لدى الدولة القطرية بغاية وحيدة وهي تحويلها إلى ما يشبه "خيال مآته" ولا يبقى لها سوى التصديق على المطالب الخارجية والمساعدة في إنجاحها.

وهنا فقط يمكن أن نفهم الخلفية التي جعلت المحكمة الجنائية الدولية تصدر برقية جلب في حق الرئيس السوداني عمر البشير بتهم منها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، فهذا الأخير منذ وصوله إلى السلطة في انقلاب عسكري "لم ترعه الولايات المتحدة على غير عادتها" خرج على المنظومة الدولية التي أسست لها العولمة/ الأمركة ما جعله هدفا لخططها وحملاتها وتضييقاتها.

إن هذه المحكمة "بقطع النظر عن مشروعية التهم والأدلة التي تمتلكها" اختارت أن تكون منذ تأسيسها في السنوات الأخيرة منحازة للمقاسات الأمريكية، فرغم أن الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بها وبصلاحياتها وأن يخضع لها جنودها، فإنها أثبتت مع مرور الوقت أنها آلية تابعة ضمن آليات أخرى عديدة هدفها فرض نمط العولمة/ الأمركة/ العسكرة، ولهذا جعلت قضيتها الرئيسية عمر البشير وتعمّدت تهميش جرائم الحرب التي ارتكبت في غزة وقللت من قيمة القضايا التي رفعها مئات النشطاء المدنيين والحقوقيين العرب والأجانب ضد الجنرالات الحاكمين في تل أبيب.

وأعطت هذه المحكمة مشروعية كاملة للسودان ليقول إنه "يخوض حربا مع المستعمرين الجدد وأدواته التي من بينها المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أمر اعتقال بحقه" "3".

والحقيقة أن هذه المنظمات أثبتت مع مرور الوقت أنها ديكور لثقافة الرجل الأبيض وآلية من آلياته الترويجية والقمعية في آن مجسدة في ذلك الرؤية الأشمل لهذه الرجل تجاه ما نسميه بالقيم الكونية، فهي ضرورية وإجبارية ما دام الطرف المقابل يرفض أن يدور في فلك المركز، وهي بلا قيمة ولا معنى إذا كان المعني بها "صديقا" وتابعا للمركز..

كما أن هذه القيم التي وُلدت ونضجت في الغرب ظلت مقوما من مقومات المركزية الأوروبية ثم الأمريكية لاحقا، ففيما أنتجت الثورة الفرنسية التنوير وحررت به أوروبا من سطوة الكنيسة والثقافة الكلاسيكية التابعة لها، نجد ذات الثورة تقدّم الفرش النظري والمفاهيمي اللازم لظاهرة الاستعمار.

ومفهوم الاستعمار نفسه امتداد لطبيعة الديمقراطية الغربية التي تؤمن بحكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه، ما يعني ذلك أن هذه الديمقراطية لا يعنيها من نتائج خارج دائرة شعبها، فهي معنية فقط بتوفير المغانم له وتحقيق مستوى معيشي متطور وشروط من الحرية غير محدودة ولو على حساب الآخر الذي يكون خارج مركزها.

وهكذا جاءت أغلب المنظمات ذات الصبغة القانونية والحقوقية عاملة على تسييد المقولات الصادرة من المركز الغربي، وبما أن إسرائيل إفراز غربي في منطقة الشرق فإن المنظمات المعنية تتعاطى معها على أساس أنها معفاة من المساءلة ومن الالتزام بالمقولات الكبرى، والأمر ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية.

إسرائيل ارتبكت آلاف التجاوزات في حق المنظومة القانونية الدولية التي صاغها المركز الغربي وفرض علينا الالتزام بها، ومع ذلك تستحي أغلب المنظمات الحقوقية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، أن تحتج مجرد الاحتجاج عليها، واستمعنا إلى السيد لويس مورينو أوكامبو، مدعي هذه المحكمة التي تخصصت في ملف البشير دون سواه، كيف قال إن ليس لديه تفويضا قانونيا للتحري فيما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب في غزة، وأن المحكمة لا تستطيع فعل شيء حيال النداءات التي وجهتها منظمات تعني بحقوق الإنسان، للتحري حول المجازر الإسرائيلية في غزه.

وقال أوكامبو، إن صلاحيات المحكمة تقتصر علي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والابادة الجماعية، التي ترتكبها دولة ما عضو في المحكمة أو ترتكب على أراضيها.

لم نسمع أصوات هذه المحكمة ولا غيرها من المنظمات والهيئات المنافحة عن حقوق الإنسان حين ارتكبت إدارة بوش الكثير من التجاوزات القانونية خلال احتلال العراق، أو في حربها على الإرهاب من اعتداءات على كرامة الأفراد وتعذيب وسجون سرية، ومن إصرارها على الاحتفاظ بمعتقل جوانتنامو رغم دلالاته الرمزية السيئة..

لكن من السهل أن تجد هذه المنظمات وهي تقيم الدنيا على خطأ معزول في بلد عربي، وتدعو إلى تسليط العقوبات عليه ومحاصرته، وربما إلى محاكمة رئيسه كما يحصل الآن مع الرئيس السوداني الذي يرفض أن يكون كبش فداء لاستئساد هذه المنظمات ومحاولة تبييض صورتها التي اهتزت بعنف بعد صمتها المريب أثناء المجازر الإسرائيلية في غزة.

إن هذا الشرخ الواسع في المقاربة الحقوقية من المنظار الغربي يحتاج إلى حل جذري يعيد الاعتبار لكونية الحقوق والقيم، ليس باعتبارها آلية تنفيذية لفرض العسكرة الامبريالية، وإنما كآلية تساوي بين الدول والناس وتحقق العدالة المفقودة بما يعطي مشروعية لجهد العولمة لإزالة الخصوصيات وتعميم المساواة وقطع الطريق أمام التلاعب المحلي/ القطري بالقانون.

وما لم يتحقق ذلك، فإن الصراع سيتحول إلى قانون بدل القانون، وستذهب هباء كل الجهود الفكرية والسياسية التي تقف في مواجهة عولمة صراع الحضارات والأديان، بمعنى أن العالم سينقسم من الآن إلى عالمين؛ عالم المركز الذي يريد الهيمنة عبر العولمة، وعالم المحيط الذي يريد أن يتحرر من العولمة وخلق بدائل قانونية وحقوقية جديدة يواجه بها السطوة المضادة.

وبالنتيجة، فإن الخصوصيات الثقافية في عالم المحيط ستعمل على الانكماش على ذاتها وترفض الانفتاح على القيم الوافيدة، وهذا يؤشّر إلى صعود التيارات اليمينة الرافضة واكتسابها المشروعية الشعبية والأخلاقية، وهنا فإن الوطن العربي سيكون مهددا بالوقوع بين كماشتي التيارات الإسلامية المتشددة أفي ظل استمرار سياسة المكيالين في المؤسسات والهياكل الدولية.

والحقيقة الماثلة للعيان أن الدول العربية تقطع خطوات كبيرة في الدفاع عن مكاسبها ضد سطوة اليمين الإسلامي المتشدد، من خلال إصلاح التعليم ومحاربة الفقر وإصلاح واقع المرأة، لكن علاقتها بالمركز الغربي تمحو كل تلك النجاحات في لحظة، فما جرى في غزة جعل أغلب الدول العربية ممزقة بين التزاماتها القومية وانحياز شعوبها للحق والعدالة، وبين التزاماتها مع الولايات المتحدة التي تكبّلها بالتفاهمات.

لقد أعطت هذه الوضعية الحرجة نقاط حوافز إضافية لخطاب التشدد كي يرتفع، وفرضت على خطاب الحداثة والاندماج في العولمة أن يتراجع.. صار من السهل الآن على هذا اليمين أن يطالب بمدونة حقوقية جديدة من قلب التراث وفرضها على الناس بمن فيهم الإسلاميون الباحثون عن التجديد والانفتاح.
إن الصراع في المنطقة العربية الإسلامية سيصبح معقدا أكثر فأكثر لصعوبة الوصول إلى مقاربة تحفظ للمحلي خصوصيته واستقلال قراره وتجعل القانون المعولم هو الفيصل.

ومع انحيازنا لمنظومة القيم الإنسانية الكونية والدعوة إلى تأسيس آليات وهياكل وفية لها وخارجة عن القبضة الامبريالية، فإننا لا يمكن أن نجد مبررا واحدا لعجز القانون المحلي في السودان مثلا عن محاكمة أولئك الذين ارتكبوا هذا الكم الكبير من الجرائم في دارفور، من اغتصاب وقتل وتشريد، وإن كنا ننزه الرئيس السوداني عن فعل بعضها أو إعطاء الإذن لتنفيذها، فإننا لا ننزه دوائر رسمية سودانية عن الاشتراك في صياغة هذه الصورة الكارثية وبذات الدرجة من المسؤولية نحمّل الفصائل المتمردة التي أرادت الوصول إلى السلطة بكل الطرق، ولو بخلط الأوراق وتسهيل تدويل الملف والاستهانة بأمن وكرامة أبناء دارفور.

اختلافنا مع سطوة العولمة واحترازنا على جهودها لتذويب خصوصياتنا ليس مبررا لأن ندير الظهر للقانون والقيم الإنسانية حتى وإن كانت منتجا تابعا للمركز الذي لا يفتأ يبحث عن طرائق جديدة لاستعمارنا..

وهناك أمل في أن يواصل المثقفون والمفكرون العرب الباحثين عن التحديث والتطوير جهودهم لصياغة منظومة فكرية عربية تنبني على هذه القيم، فلا مستقبل للعرب خارج التحديث والانفتاح على الآخر.

"مراجعات" إخوان سوريا.. مقدمات موضوعية لنهاية الطوباوية

مختار الدبابي

لا تكاد تسمع في ساحة العمل الإسلامي إلا عن المراجعات، فهذه الحركات السلفية الجهادية تعلن التوبة تلو ‏الأخرى وتطلّق المسار الذي خلّف آلافا من الضحايا بين قتلى وجرحى ومساجين وأعطى مبررات لبعض ‏الأنظمة العربية لتلتف على الإصلاح السياسي والاجتماعي باسم قطع الطريق عن القوى الدينية مع أنها لا ‏تكاد تختلف عليها سوى في امتلاك القوة.‏

آخر المراجعات طالت التيار الإخواني الذي يهمين على مساحة كبيرة في دائرة التنظيمات الإسلامية، ‏والحركة المراجعة هي حركة "إخوان سوريا" التي سبق لها أن سلكت أبوابا كثيرة للتحالف ضد النظام بما ‏في ذلك التحالف مع عبد الحليم خدام أحد الرموز المنسحبة من النظام السوري وأحد الشركاء الفاعلين في ‏المواجهة التاريخية معها والتي بلغت مداها في مدينة حماه سنة 1982.‏

فجأة تناست الحركة تراث المواجهة وتراكمات العداء مع السلطة وأعلنت وقف كل الخلافات‏‎ ‎‏ تحت مبرر أن ‏الخلاف مع السلطة ثانوي وتكتيكي فيما الخلاف مع الاستعمار والامبريالية استراتيجي، وبما أن السلطة ‏ترفع لواء حلف الممانعة وتؤمّن الغطاء السياسي للمقاومة فإن الحركة قررت وقف معارضتها للنظام ‏وعرض التحالف معه في هذه المهمة "الاستراتيجية".‏

وأيا كانت مبررات هذه "التوبة" السياسية المفاجئة لإخوان سوريا، فإنها تحمل الكثير من الدلالات الثاوية ‏خلف جبل الثلج، ليس فقط لهذه الحركة بل للحركات الشبيهة التي رفعت السلاح في وجه أنظمتها، أو بحثت ‏عن الانقلاب ثم عجزت ففرت إلى الخارج، أو تلك التي راهنت على توظيف العداء الخارجي لأنظمتها لتعبر ‏عبره إلى السلطة.. ومشهد العائدين على ظهور الدبابات الأمريكية لا يزال راسخا في الأذهان.

‏1 - أولى هذه الدلالات أن الحركات العربية المعارضة بمختلف مشاربها اكتشفت أن الهروب إلى بلاد الثلج ‏والصقيع وإدارة الصراع مع أنظمتها من هناك لم يعد ذا فائدة..

لقد وقفت على حقيقة فارقة وصادمة بعد ‏نصف قرن من التجارة بالشعارات والوعود، وهي أن الغرب لا تعنيه كثيرا تلك القيم إذا لم تحقق له ‏مصالحه.‏

لقد حاول الغرب "الديمقراطي" أن يجعل من هذه الحركات طابورا خامسا يضغط به على الأنظمة حين يختلف ‏معها في قضية، أو يريد منها أن تتنازل عن موقف أو تبرم صفقة ما، وخاصة حين تتمسك باستقلال ‏قرارها الوطني في التعاطي مع ملفات تتقاطع فيها المصالح..‏

السذاجة الفكرية والسياسية جعلت المعارضات العربية التي تتقوى بالغرب، يمينها ويسارها وليبراليّها، ‏تكتشف متأخرا أنها كانت مجرد كمبارس ولعبة مل منها أخيرا بعد أن وجد أنه لم يعد لها تأثير داخل ‏شعوبها حتى صار بعضها مثل المومياء التي يتم عرضها في البازارات، فهذا الغرب لا يتذكّرها إلا ليعرضها ‏في تلفزيون ما توجّه عبره السباب لأنظمتها ثم تعود إلى الشرانق.‏

الغرب الامبريالي حسم المسألة بعد التجربة المريرة في العراق، حيث لم تقو "المعارضة" بعد كل الدعم ‏والتمويلات في أن تفرض الاستقرار رغم مرور ست سنوات على الغزو الذي وضعها في الحكم..‏‎ ‎‏ وهي ‏رسالة دقيقة للغرب تدعوه إلى أن ينفض يديه من المعارضات التي تمتلك الجرأة كي تعود على ظهور ‏الدبابات.‏

‏2 – العرض الإخواني بـ"التوبة" السياسية والعودة إلى صفوف النظام نابع من الإحساس بالفشل وانسداد ‏الأفق، فهذه الحركة ومثيلاتها حولوا الإسلام إلى مجموعة من الشعارات السياسية في حربهم مع الأنظمة، ‏وأفرغوه من دلالاته الروحية والفكرية وشموليته..‏

إن إعلان جماعة البيانولي العودة إلى النظام غير المتحمس لهذه الخطوة هو نعي رسمي لتيار الإسلام ‏السياسي الذي غرق منذ ستينات القرن الماضي في المواجهات مع الأنظمة ومع التيارات السياسية المختلفة ‏معه أيديولوجية، وطيلة نصف قرن لم يترك لنفسه ولمريديه من تراث غير تجارب السجون وأكوام من ‏البيانات ومشاريع الانقلابات..‏

مع الإشارة إلى أن "هذه الثورية" اكتسبها الإسلام السياسي من خلال احتكاكه باليسار العربي، وهي مناقضة ‏لطبيعة التراث الفكري الإسلامي الذي يدعو إلى الإقناع والمحاورة والإصلاح والتغيير الهادئ "والحكمة ‏والموعظة الحسنة" ..‏

وهناك أصوات كثيرة في دائرة الفضاء الإسلامي تطالب الحركات والتنظيمات السرية والعلنية بوقف ‏الانزلاق إلى هذه الثورية لأنها أضرت بالإسلام كنموذج تعايش مدني والعودة إلى روحه ومقاصده الداعية ‏إلى البناء لا الهدم، والتسامح لا التشدد، والحوار لا الإرهاب.‏

وواضح أن خطوة "إخوان سوريا" ستمثّل مدخلا لـ"توبة" جماعية لأغلب التيارات التي وجدت نفسها على ‏هامش شعوبها ورقة في أيدي قوى أجنبية تزايد بها وتصفي عبرها الحساب، وخاصة ظاهرة "الإسلام ‏السياسي" التي أصبحت مدرسة لتخريج الانتحاريين والهاربين من الحياة.‏

وتستدل هذه الأصوات بما جرى مع بعض تعبيرات اليسار العربي التي اختارت بعد قراءة موضوعية ‏لأسباب سقوط الكتلة الشرقية أن تترك خيار المواجهة المفتوحة مع الأنظمة وميراث السجون والاغتيالات.‏

ليس عيبا أن يجري تيار من تياراتنا نقدا ذاتيا ومراجعات تطال الأصول والفروع، وينحاز للمستقبل، لكن ‏العيب أن يقدم التنازلات دون مراجعة فكرية وفقهية، ما يعني أنه يسمح لنفسه بالعودة مرة أخرى إلى خيار ‏الرفض للرفض.‏

إن مراجعات "إخوان سوريا" ما ينبغي أن تقف عند حد الموقف من النظام، أو عند تذكّر القضايا القومية ‏وإغفال النضال من أجل التغيير من الداخل، فهذه شطحة لا شك أن المتعاطفين معها ما زالوا عاجزين عن ‏استيعابها والبحث لها عن مسوغات سياسية وتنظيمية..‏

المراجعات الحقيقية تذهب إلى تقويم التجربة ككل؛ من حمل السلاح إلى الجلوس مع أطراف وشخصيات ‏تضع الأيادي مع جهات مشبوهة، فضلا عن تغليب السياسي وتحويل المشروع "الحضاري" إلى لعبة مرنة ‏تعبّد الطريق لحلم الوصول إلى السلطة.‏

وبالتأكيد، فإن المراجعات التي لا تسبقها الأسئلة ولا تخلخل الثوابت، تظل مراجعات لفظية تؤجّل اللحظة ‏الحاسمة التي تسمح لـ"الإخوان" إما بالتحول إلى أطراف فاعلة في مجتمعاتهم، أو الانكفاء والاكتفاء بدور ‏الهامش والتمتّع بلعبة الدخول والخروج من السجون..‏

ومن الأسئلة المهمة التي يجب أن يطرحها هؤلاء هي: لماذا فشل الإخوان طيلة أكثر من نصف قرن في أن ‏يكونوا طرفا فاعلا في البناء والتشييد، وظلوا دائما طرفا يشد إلى المواجهة‎ ‎‏ باختيار منهم أو مدفوعين ‏دفعا؟

‏3 – ليس أمام هذه الحركات من سبيل للاستمرار سوى مراجعة نوعية تعيد لها هويتها كتعبيرة إسلامية ‏تؤمن بالنصح والتغيير المدني الهادئ.. ‏

وهناك دعوات تتجدد مع كل مناسبة مثل هذه التي وفرتها "التوبة" التي أعلن عنها "إخوان سوريا" تطالب ‏‏"الإخوان" بأن يدربوا أنفسهم على اختيار خط واحد لأنفسهم، إما أن يكونوا تعبيرات دعوية صوفية صرف، ‏أو تعبيرات فكرية، أو تعبيرات سياسية، فلا يمكن ممارسة السياسة بمراوحاتها وشطحاتها والتمسك ‏بـ"الطهر" الديني، ليس أمام هؤلاء إلا التحول إلى حركات مدنية تقطع مع المتاجرة بالفتاوى وتبحث عن ‏المشاركة الفعلية في جهود التطوير ببلدانها.‏

ومن الأسئلة المهمة التي ما يجب أن تظل معلقة؛ حركات الإسلام السياسي العربية تواجه حروبا حامية ‏تستهدف وجودها ولم تطرح السؤال يوما: لماذا كل هذا؟

لماذا يتم التعامل مع الطيف السياسي الباقي بأسلوب أكثر ليونة وتفهما وغضا للطرف؟
هل هي كراهية للإسلام، مع أن أغلب الأنظمة العربية تبني المساجد وتؤمها وتحيي المناسبات الدينية ‏وتحج وتصوم وتخص الأئمة والقائمين على المساجد والكليات والمعاهد الدينية باهتمام بالغ وتتنافس ‏لإظهار أسلمتها عبر العطف على الفقراء واحتضان وفود المشايخ العابرين للفضائيات وإقامة الندوات ‏الدينية والإنفاق عليها بسخاء؟

الإجابة لا تحتاج إلى كثير عناء، فهذه الحركات تنافس الدولة على صلاحياتها، وبما أن الحاكم العربي ‏امتزج بالدولة وصارت صوته وسوطه، فإن المواجهة تكون حامية بين طرفين يريد كل منهما أن يفتك دور ‏الدولة بما هي ضامن للتعدد الديني والفكري وحريات الأشخاص.‏

ومثلما تطالب تلك الحركات الأنظمة بأن ترفع أيديها عن الدين وتكف عن المتاجرة به، من الطبيعي أن ‏تطالبها الأنظمة ويطالبها الناس بأن تُنهي متاجرتها بالدين وتلتفت إلى السياسة التي تريد امتهانها، فالدين ‏مشترك وطني لا يمكن أن يستأثر به أحد، وإلا لمَ يحتجون على الأنظمة ويتهمونها بالاستئثار بالأوطان إذا ‏كانوا يجيزون الاستئثار بأحد أركان المشترك "الأديان".‏

وحتى لا نغرق في التجريد، فإن تيارات الإسلام السياسي، سواء المتوارية في الغرب التي امتهنت الشتيمة ‏والتجسس على أسرار الأنظمة، أو التي استمرأت لعبة السجون في الداخل متوهمة أنها تحرج الأنظمة ‏وتقض مضاجعها، هذه التيارات أمامها فرصة حقيقية اجترحها "إخوان سوريا"، وهي التصالح مع بلدانها ‏وشعوبها ووضع نقطة النهاية لتلك الهرولة المحمومة نحو السلطة بكل الأشكال والأساليب بما في ذلك ‏تمريغ قداسة الديني بدنس السياسي.‏

أغلب الدساتير العربية تفتح الباب أمام الانتظام السياسي وتكوين الأحزاب وتضع لذلك قوانين تفصيلية من ‏بينها منع تشكيل الأحزاب على أساس ديني، أو مذهبي طائفي، أو قومي، أو طبقي، وهي قوانين تقوم على ‏مبررات مشروعة إذا أخذنا بالاعتبار ما يجري في العراق ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية.‏

في هذه البلدان تحول الديني/ المذهبي/ الطائفي إلى عامل تفرقة وصدام وقتل عبثي، وهناك مؤشرات على ‏كمون فوضى طائفية أخرى بدأت تُطل برأسها في بلدان مثل البحرين والسعودية ومصر.‏

لقد مر على "تسييس" الدين مع المرشد الأول للظاهرة الإخوانية حسن البنا 85 عاما، لم يحقق فيها ‏الإخوان شيئا لأنفسهم ولدولهم وأمتهم، أفلم يحن الوقت بعد ليعيدوا قراءة تجاربهم ويصوّبوا أهدافهم ‏ويغيّروا أساليبهم..‏

وهناك اقتناع داخل تيار واسع من هذه الحركات بأن فشل "تسييس" الدين صارا أمرا مقضيا ولا تفيد معه ‏مماطلة أو تسويف، وأن طريق النجاة هو التحول إلى حركات مدنية تبحث لنفسها عن هوية سياسية من ‏داخل فضاء الفكر الإنساني القابل للنقد والنقض، والتصويب والتطوير، والذي يؤمن بالحق في الخطأ ‏والاختلاف ولا يستطيع حزب أو تنظيم أن يُسكت الخصوم بأن يسحب من جرابه حكما فقهيا يكفّر أو يهدر ‏الدم، أو يُحرض شبانا مراهقين، أو فاشلين يائسين من الحياة فيقدمون على الانتحار بشكل عبثي فيقتلون ‏بعض أهلهم وذويهم بزعم "الجهاد".‏

إن انتفاء مبررات القتل العبثي للنفس أو للآخرين، والإيمان بنسبية الفكر السياسي بعد التحول إلى حركات ‏مدنية سيجعل، ولا شك، إيمان "الإخوان" بمختلف تعبيراتهم وتلويناتهم، بالديمقراطية والتعددية أمرا ممكنا ‏ويُسكت في وجههم الأصوات المتعالية من كل اتجاه تشكك في التزامهم وكونهم يتخذون المقولات الحقوقية ‏والقيم الإنسانية مطية للوصول إلى السلطة ثم يديرون لها الظهر ويعمدون إلى تصفية الحساب مع الفرقاء ‏حتى من داخل الفضاء الإسلامي نفسه.‏

الزخم الروحي لدى حركات الإسلام السياسي، والإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة أمامها الآن ‏فرصة لأن تتحول إلى جهد فاعل في خدمة التنمية التي هي الهدف الاستراتيجي للأمة، فبدون تنمية لن ‏يتحول الفضاء العربي الإسلامي إلى قطب ينال احترام الكبار، ولن يتحقق للأمة حلمها في استعادة أراضيها ‏المحتلة بما فيها القدس..‏

إن "توبة" إخوان سوريا وانفتاحهم على النظام، تحتاج إلى مراجعات حقيقية تدعمها حتى تكون قدوة وسبيلا ‏للتيارات الشبيهة التي تقف مترددة بين أن تمد اليد لأنظمتها وتكف عن المكابرة، وبين أن تواصل "حلمها" ‏بتغيير هلامي لم يتحقق منه شيء منذ 85 عاما، وقد لا يتحقق أبدا

السبت، 4 ديسمبر 2010

تحيا نظرية المؤامرة: دلالات الرسائل الخفية للعبة ويكيليكس

مختار الدبابي*
موقع ويكيليكس صار حديث العالم، الجميع يتابع أخبار الوثائق أولا بأول، ويطلق التكهنات حول الوثائق القادمة ويتساءل: من ستكون الضحية القادمة التي يفضحها هذا الموقع، وقد ظهر بين عشية وضحاها وصار الموقع الأشهر والأهم والأكثر جاذبية؟ ثم من يكون صاحب الموقع وكيف حصل على هذا الكم الكبير من المعلومات الخاصة بدولة تنهض وتنام على التجسس والتنصت على مواطنيها قبل غيرهم؟
ولأننا لم نتعود أن نتعامل مع الأحداث ببراءة الأطفال كما فعل الكثير من الإعلاميين العرب الذين تعاطوا مع "تسريبات" ويكيليكس وكأنها حقائق ثابتة، فقد سكننا السؤال دائما عمّا وراء الصورة: من وضعها ومن المستفيد منها، ولم نصدق لعبة ويكيليكس ولم نغتر بالبالونات التي أطلقها وحاولنا النبش في ما وراءها وما حف بها من تضليل وتوظيف ومصالح استعمارية، ونسجل هنا مجموعة من الملاحظات:
أولا؛ تكمن قيمة الوثائق المسربة عادة في أنها تحمل أسرارا خاصة ومهمة للطرف الذي سُرقت منه، وهو هنا الخارجية الأمريكية، لكن وثائق ويكيليكس لم يرد فيها ما يضر بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وكل ما فيها هو وثائق عن عمليات التجسس والتقييمات التي تُصدرها السفارات الأمريكية في المنطقة العربية، وليس خافيا على أحد بما في ذلك الرؤساء العرب أن السفارات الأمريكية في عواصمهم تتجسس على بلدانهم وتمتلك معلومات دقيقة عن كل شيء لديهم.
ففي المجال العسكري أغلب السلاح خردة ومستورد إما من الولايات المتحدة أو من أوروبا، ويتولى "خبراء" أمريكيون إعادة تركيبه وتشغيله، ولا يخفى عليهم شيء بما في ذلك أسرار السلاح الذي يأتي من روسيا وقد أصبحت "دولة صديقة" تتحرك في الظل الأمريكي كما وصفناها في الملف الذي أعددناه منذ أسابيع في صحيفة العرب الأسبوعي.
وأكثر من ذلك، فهي تتولى تدريب القوى الأمنية وقياداتها على السلاح وتصدّر إليهم خبراتها في القمع والتعذيب "ففي أغلب عواصمنا دايتون شبيه بدايتون رام الله" خاصة بعد الخبرات الكبيرة التي امتلكتها في العراق وأفغانستان وفي حربها العلنية والسرية على الإرهاب، ومن ثمة فالمعلومات الأمنية ملقاة على قارعة الطريق بالنسبة إليها.
أما سياسيا فالسفارات الأمريكية تعرف كل شيء عن المشهد السياسي في مختلف العواصم العربية وغير العربية، وعلاقاتها "مفتوحة على الآخر" مع الشخصيات الرسمية و"المعارضة" "الراديكالية، وشبه الراديكالية، وخيال مآتة" و"المستقلة" وتعرف تفاصيل كل شيء، كما أنها على اطلاع واسع على تفاصيل الخصخصة والشخصيات المالية سواء من الحرس القديم أو من الوجوه الصاعدة المرتبطة بشكل أو بآخر بدوائر القرار السياسي في مختلف العواصم.
وبالتالي، فما جاء فيها من تسريبات لم يحقق اختراقا في الصورة المعلومة بالنسبة إلى الأنظمة التي تم استهدافها بالتسريبات ولا بالنسبة إلى مواطنيها الذين لا تزيدهم تلك التسريبات إلا اقتناعا بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون بلدا صديقا.
ثانيا؛ توهمنا تسريبات ويكيليكس "الخارقة" والمفاجئة بأن ما يحكمها هو "السبق" و"الكشف" ولا تحكمها انتقائية أو تصفية حساب، لكن تفاصيل الأخبار والنصوص التي نشرت لا نجد فيها إلا استهدافا لدائرة جغرافية وثقافية بعينها، هي المنطقة العربية زائد تركيا وإيران.
وما ذُكر عن أوروبا لم يتجاوز إطلاق نعوت تدخل في سياق المزاح تجاه بعض الشخصيات أمثال ميدفيديف وبوتين وساركوزي وبرلوسكوني "نعوت لا تساوي شيئا أمام الصور الكاريكاتورية التي تنشر لهم في وسائل إعلامهم بما في ذلك الرسمية".
أما التلويحات بالكشف عن حقائق "مثيرة" عن إسرائيل فقد انتهت إلى حديث يبرر عدوانها على غزة ويحاول توريط حركة فتح والنظام المصري من حيث معرفتهم بقرار شن الهجوم الإسرائيلي وصمتهم عليه، أي تسريب موجه ولا تحكمه صدفة أبدا، وقد وفر الموقع الفرصة لنتنياهو كي يعطي قياداتنا وزعماءنا الدروس في أسلوب التعاطي مع الشعوب وضرورة مصارحتها.
ثالثا؛ هل التسريب "البريء" و"الجريء" خاف من نشر وثائق يمكن أن تصنف تحت مظلة معاداة السامية فمارس الانتقاء، أم أن تلك الوثائق طاهرة و"نقية" من موجبات معاداة السامية كما أراد مسربوها؟
وهذا ما يؤكد أن التسريب كان موجها وهادفا ودقيقا وأن من سرّب تلك الوثائق لن يخرج عن إحدى دوائر الاستخبارات الأمريكية بغاية تحقيق أهداف بعينها.
التسريب الأول الذي ركز على العراق، ورغم بعض التهويل في الحديث عن الجرائم والوضع الإنساني فإن الغاية الأساسية منه كانت إرباك مفاوضات تشكيل الحكومة وقطع الطريق أمام المالكي ومنعه من ترؤس الحكومة الجديدة في محاولة يائسة لإضعاف النفوذ الإيراني القوي في العراق.
أما التسريب الجديد، فرسالته الرئيسية تستهدف تقديم صورة سيئة عن واقع غالبية الأنظمة العربية، وهي رسالة بالغة الدلالات والغايات، فهي من ناحية تزيد في إضعاف واقع تلك الأنظمة أمام جماهيرها، وتدفع الجماهير إلى اليأس في أي تغيير مدني هادئ تتم فيه الشراكة بين مختلف القوى السياسية بما فيها الأحزاب الحاكمة، ورهان التيئيس الأساسي هو توسيع دائرة التشدد والانغلاق باعتبارها الشرط الأول لنجاح "الفوضى الخلاقة" كأداة استراتيجية أمريكية للسيطرة على العالم.
رابعا؛ لم يكن الهدف من تسريب الوثائق كشف حالة الفساد الداخلي في أي بلد، وإنما تشكيل صورة واحدة تقريبا تقول إن غالبية الأنظمة العربية لا تعمل وفق أجندات وطنية أو قومية وإنما هي تختار بـ"حرية تامة" الاصطفاف وراء المصلحة الأمريكية وتعمل على تجسيمها عن قناعة تامة، بل تتبدى أحرص من الأمريكيين أنفسهم على تنفيذ تلك الأجندات وخاصة ما تعلق بالحرب على إيران.
ما جاء من تسريبات يقول إن الدول العربية "المؤثرة" تريد فتح مواجهة سريعة وعاجلة مع إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، وتذكرنا خطابات التحريض هذه بالأجواء التي سبقت العدوان الأول على العراق "1991" حيث تطوعت العواصم العربية "الفاعلة" إلى التحريض السري والعلني عليه وأعطت كل المبررات السياسية والأمنية والأخلاقية لإدارة بوش الأب ثم تاليا الابن لخوض عدوانيْ "1991" و"2003".
وهكذا، ومثلما تقول روح التسريبات فإن أمريكا ليست متعجلة لضرب إيران ولكن المحيط العربي هو من يريد المواجهة، فالحرب حربه وأمريكا هي "فاعلة خير" تريد حفظ الأمن وحماية أصدقائها لا أكثر!، وهو ما يوسع دائرة العداء بين شعوب المنطقة ويقطع الطريق على أي تحالف استراتيجي بينها يتصدى للهيمنة الأمريكية ويهدد وجودها العسكري في المنطقة وخاصة في الخليج.
خامسا؛ أما إسرائيل، وفق الصورة "البريئة" للتسريبات فلا تزعج أحدا وليست عدوا استراتيجيا مثلما يسوق لذلك البعض، بل هي جار لا أحد يشتكي منه حتى بينه وبين نفسه، وهي الحالة التي تفضحها الوثائق المسربة ذلك أن السفارات الأمريكية تعرف عن أمتنا وأنظمتها كل شيء.
والرسائل تحمل في ما تُخفيه دعوة للتطبيع مع إسرائيل ما دامت "مسالمة" ولا تمثل خطرا على أحد عكس إيران، ومن ثمة ليس هناك مبرر لأن تؤجّل الأنظمة العربية التعاطي معها دون "عُقد" ودون أن تنتظر انتهاء مفاوضات السلام بينها وبين سلطة فلسطينية منزوعة الريش ترضى بالفتات لكن إسرائيل ترفض أن تمنحها ولو فتات الفتات.
وشرط التطبيع، وفق ما حملته الدلالات والرسائل الخفية للعبة ويكيليكس، ألا تكون العلاقة متكافئة وألا تحتكم إلى المصلحة المشتركة أو العامة "ونعني مصلحة الشرق الأوسط الكبير الخادم للامبريالية والسوق الاستهلاكية الكبرى لمنتجاتها"، بل علاقة فوقية تمارس فيها إسرائيل التفوق العسكري والاقتصادي والقيمي "بزعم أنها دولة ديمقراطية فيما العرب غارقون في الاستبداد والتسلط وربما لهذا شجعت واشنطن الحزب الحاكم في مصر على أن يمارس كل أنواع البلطجة والتزوير"، وتأتي تصريحات نتنياهو سالفة الذكر لتكريس هذا "التفوق الأخلاقي".
سادسا؛ وفي سياق خدمة الاستراتيجية الأمريكية/ الإسرائيلية جاءت تسريبات ويكيليكس محددة للأعداء الاستراتيجيين للصهيونية العالمية، ونعني إيران أولا، وهي قوة "رغم اختلافنا معها" تقف بصبر وتعال في وجه الامبريالية "أحيانا بأسلوب ساذج تطغى عليه الشعارات والمزايدات، وأحيانا أخرى بتحد جدي ومؤثر".
أما القوة الثانية التي استهدفها "التسريب البريء" فهي تركيا، ويبدو أن اللوبي الصهيوني "الأمريكي الإسرائيلي" لم ينس المواجهة الجريئة وغير المسبوقة التي خاضها أردوغان مع بيريز في منتدى دافوس، ولهذا تحدثت التسريبات عن أن الرجل يمتلك أموالا في حسابات بنكية خاصة في سويسرا "والغاية تشويه الصورة الثورية التي رسمها لنفسه عند العرب خاصة في ملف غزة"، وانتقل انتقام "التسريبات" إلى محاولة ربط أنقرة بدعم "القاعدة" وبالمقابل دعم إسرائيل وواشنطن لحزب العمال الكردستاني، أي تصفية الحساب بالحاضر مع تركيا التي قررت أن تخرج عن الظل الأمريكي والبحث عن مصالحها شرقا.
سابعا؛ هناك سؤال يطرح هنا أمام هذه القراءة المسترابة التي نزعمها: إذا كان جوليان أسانغ مؤسس ويكيليكس "صديقا" لأمريكا وقبل بتسريب ما تريد أن تسرب لماذا تلاحقه قضائيا وتفتح عليه نار جهنم؟
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن هذه اللعبة ممكنة جدا، وللاستخبارات الأمريكية تاريخ طويل من الفبركات والمسرحيات والمناورات الاستخبارية متعددة الأشكال والأساليب والضحايا.
وسواء أكان أسانغ على علم باللعبة واشترك فيها طواعية أم تم إلقاء كل تلك الوثائق "مصادفة" أمامه ونشرها وهو يتوقع أنه حصل على سبق إعلامي لا مثيل له، فإن الآلة الإعلامية الأمريكية ستحرص على تجريمه وربما إصدار حكم قاس عليه قد يكون مدى الحياة وهي تريد أن تحوله إلى "شهيد" ومناضل شبيه بمانديلا تكون له سلطة معنوية على الناس فيتعاطفون معه "في سياق كراهية آلية/ ميكانيكية للسياسات الأمريكية" ومن ثمة يصدقونه.
أي يصدقون أن التسريبات كانت صدفة وأن جنديا عمره 23 عاما قد تولى نسخ وثائق وأسرار الخارجية الأمريكية "هكذا وكأنها وثائق مكتبة مفتوحة أمام العموم لا رقيب عليها"، ومن ثمة يصدقون أن التسريبات بريئة وتلقائية وأن أمريكا ليست قادرة على حماية وثائقها في ظل التطور التكنولوجي.
لكننا نطرح سؤالا إنكاريا أمام كل هذه البراءة: ماذا لو امتلك أسانغ وثائق تهدد النووي الأمريكي أو النووي الإسرائيلي، هل كانت واشنطن ستتعامل معه بكل هذه البراءة وسعة الصدر، أم كانت ستحاربه بكل ضراوة وقوة وربما تتم تصفيته قبل أن يفتح فاه بكلمة واحدة؟.
لو أن هذه الوثائق تستهدف مصالح واشنطن أو تدق الإسفين بينها وبين أصدقائها فإنها لم تكن لتسمح بنشرها وخبراتها الواسعة في تعذيب واختطاف وتصفية خصومها في "الحرب على الإرهاب" تقول إن هذا لا يمكن أن يحدث البتة.
ومما لاشك فيه أن التسريبات فضحت العقلية الأمريكية التي تريد أن توهم العالم بأنها سيدته الأولى وشرطيه الأوحد، وستبدأ مراجعات في أكثر من بلد عربي بشكل صامت وسري لبحث الاعتماد على الذات والتحرر من المساعدات المشروطة والتركيز على التنمية والتخفف من الاستبداد والاقتراب تدريجيا من الحكم الرشيد حتى لا تترك مبررا لواشنطن لممارسة دور الأستاذ المتعجرف.
ولن يكون الجانب الأمني بمنأى عن هذه التغييرات الصامتة، وبالتأكيد لن تجد السفارات الأمريكية مستقبلا كل الحرية كي تتجسس على أسرار الأنظمة.

* سكرتير تحرير العرب الأسبوعي