الاثنين، 17 أكتوبر 2011

ثورة الحرية في تونس تعيد إنتاج سلطة القمع

First Published: 2012-04-10




ميدل ايست أونلاين





مختار الدبابي





ما أشبه اليوم بالبارحة..



تونس التي اجترحت طريق الثورات وفتحت الباب واسعا أمام شعوب عربية أخرى كي تنتفض ضد الاستبداد والفساد، هي نفسها تعيد إنتاج دولة الاستبداد في أشهر قليلة من تسلم حكومة النهضة للسلطة بعد انتخابات اتسمت بالشفافية والنزاهة وإنْ كانت نتائجها لم تعكس طبيعة التوازنات القائمة في البلاد.



ما الذي تغيّر كي تمارس قيادات، أفنت سنوات طويلة في السجون والمنافي من أجل لحظة حرية وكرامة، القمع المنظّم على مجموعات من الجماهير كان دورها مؤثرا في نجاح الثورة التي حررت الحكام الجدد وسلمتهم السلطة على طبق من ذهب؟



الإجابة عن السؤال قد يغلب عليها التردد والتبرير لدى هؤلاء الذين حبّروا منذ 1981، تاريخ تأسيس تنظيم الاتجاه الإسلامي الذي أصبح في ما بعد حركة لنهضة، مئات البيانات التي تحتج على القمع زمنيْ بورقيبية وبن علي.



لكنك، بالتأكيد ستجد في حلوق هؤلاء مرارة الخيبة لفشلهم في أول اختبار يثبت لمن شككوا طويلا في قناعتهم بالديمقراطية والذين قالوا لجماعة النهضة، زمن بورقيبة وبن علي وبعدهما، إن الفوز ديمقراطيا وعبر صناديق الاقتراع لا يعني أبدا أن تكون ديمقراطيا، فالديمقراطية منظومة رؤى وثقافة وليست مجموعة شعارات أو تمنيات.



المؤشرات الأولى لسلوك حركة النهضة التي اعتلت السلطة منذ أشهر في تونس تقول إن دولة الأيديولوجيا ستنتهي ضرورة إلى دولة قمع مثلما حدث في التجارب الاشتراكية وفي ثورة إيران، فحين تمارس السياسة وأنت مقتنع بأنك تمتلك الحقيقة وأن خصمك بالضرورة مخطئ (حتى لا نستعمل ترسانة التكفير والتخوين والوسم بالعمالة) يصبح التقييم صعبا.



فأنت لا تخطئ ولا تفشل ولا تحيد عن طريق الثورة ومبادئها، وإنما غيرك منْ لا يرى ولا يفهم، أو هو منْ يتآمر ضدك، ليفشل التجربة الطاهرة النقية التي تعبّر عن الله، وتكفي إطلالة هنا على ما يكتبه أنصار حركة النهضة والمجموعات المتعاطفة معها في الفيس بوك لتكتشف أن النهضة ليست حزبا سياسيا مدنيا مثلما يقول قانونها الأساسي وإنما هي صوت السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.



ليس جديدا أن نصل إلى نتيجة تؤبّن دولة الأيديولوجيا، لكن الجديد هو أن نصل إلى نتيجة تشكك في المصادرة التي تريد المصالحة بين الإسلام والديمقراطية، ولأن الإسلام إسلامات ومذاهب وقراءات وتأويلات، فليست مهمتنا نفي الديمقراطية عنه أو التقليل من شأن الديمقراطية قياسا إلى مقاربته، لكن ما يهمنا هو التساؤل حول ديمقراطية حزب إسلامي يحاول إقناع فئات محلية وخارجية بأنه ديمقراطي ومدني فإذا به يبني "الدولة الديمقراطية" الوليدة بالهراوات والغاز المسيل للدموع في أيامه الأولى بالسلطة.



ومن المهم التأكيد هنا أن النهضة استجابت سريعا لضغط الخصوم الذين شتتوا اهتمامها وأغرقوها في قضايا كثيرة وأفقدوها أعصابها فانخرطت في المواجهة من موقف الضعيف الفاقد للتجربة وسعة الصدر، وكان العنف ضد احتجاجات المعطلين عن العمل السبت (7 ابريل) ثم مسيرة التاسع من ابريل الاثنين علامة فارقة على أنها تتصرف كمجموعة حزبية يائسة وليس كحكومة ثورة تريد أن تؤسس لما هو دائم.



وليس مستبعدا أن يؤدي هذا العنف إلى انفراط جزء من التحالف الهش الذي بنته النهضة، ومؤشرات ذلك في تصريحات القيادي بحزب التكتل محمد بنور التي دعا فيها إلى فتح تحقيق حول ما جرى وخاصة حول المليشيات المدنية التي مارست العنف على المتظاهرين جنبا إلى جنب مع قوات الأمن باللباس الرسمي..



وإذا كانت الصورة في ظاهرها تعكس هشاشة النهضة وحكومتها في مواجهة الواقع، فهي تعكس، أيضا، قصورا في تعاطي المعارضات بمختلف مشاربها مع قضية الديمقراطية والحفاظ على الثورة.



فأن تدفع حكومة "منتخبة" إلى حافة الهاوية بكل الطرق يعني ببساطة أنك فكرت فقط في إرباك خصمك وتسجيل النقاط لحسابك الخاص في الانتخابات القادمة، لكنك لم تفكر في التجربة الديمقراطية ومآلاتها في محيط عربي ضعيف الصلة بالتعدد الحزبي وبالمؤسسات المنتخبة.



لا شك أن خصمك سيعمل على إرباكك بكل الوسائل لو فزت في الانتخابات القادمة وتجدد اللعبة المسلية معك ومعه، لكن الضحية في المشهد هي التجربة الديمقراطية التي ستفرغ من مضمونها وتصبح فقط عنوانا لمن يفوز في الانتخابات سواء بتوظيف المال السياسي أو الدين أو العشائرية والمناطقية.



بدا واضحا للعيان بعد ثلاثة أشهر من التجربة الديمقراطية الفتية في تونس أن الأحزاب تفكر فقط في المكاسب المباشرة وأن مستقبل التجربة ومنطق التراكم وبناء وفاق وطني يقوم على تنازلات مشتركة لإنجاحها مسألة لا تعنيها إلا من باب الاستهلاك الإعلامي والمزايدة السياسية.



الوفاق الوطني كان سيساعد مختلف الأحزاب على عملية التدرب على السلوك الديمقراطي بما يعنيه من ثنائية التجربة والخطأ في أجواء من الهدوء، والأهم أنه يوسع دائرة المشترك الوطني ويحول دون التهديدات التي تمت في المدة الأخيرة للحريات العامة والخاصة وإثارة النقاش حول مكاسب قانونية ومدنية تضع تونس في مرتبة متقدمة عربيا.



إن العنف الذي مارسته قوات الأمن مساء الاثنين ضد نشطاء سياسيين وحقوقيين، ومتظاهرين مطالبين بالحق في العمل، ومتخوفين على انحراف الثورة بعودة المحسوبية واحتكار الحزب الحاكم للإدارة، هو جرس إنذار لمختلف ألوان الطيف السياسي في تونس داخل الحكومة وخارجها بأن الثورة التي خطفت أنظار العالم يمكن أن تفقد بريقها وترتد على شعاراتها بيسر إذا استمرت حالة الاستقطاب الثنائية ومنطق تصفية الحساب السياسي.



وهناك مؤشرات على أن الحل ممكن من خلال عمليات التوحيد التي تتم بين أحزاب الوسط ذات الخلفيات الليبرالية واليسارية حول قواسم مشتركة، وهي عمليات يمكن أن تتوسع إذا تخلت الأحزاب (وغالبيتها بأحجام صغيرة) عن عقلية الزعامة والمحاصصة وفتحت الباب أمام مجموعات أخرى وشخصيات وطنية مستقلة.



وقيمة عمليات التوحيد لا تكمن فقط في توسيع حجم جبهة الوسط لتنافس النهضة في انتخابات قادمة وإنما وأساسا لأنها تجمّع شرائح مجتمعية حول مواقف وقضايا مصيرية وتدير حولها حوارا واسعا حتى يكون الانتخاب في المحطات القادمة على البرامج والمشاريع القابلة للتحقق وليس حول الشعارات أو الهوية والدين.



فهل تتدارك الثورة التونسية نفسها عبر خلق ميزان قوى جديد يؤسس لوفاق واسع ويحقق الحرية والكرامة، أم يظل المشهد قابلا للاشتعال؟


كاتب وإعلامي تونسي