الأحد، 10 يونيو 2012

زيارة نجاد... رسالة إيرانية إلى دول الخليج وليس فقط إلى الإمارات

 مختار الدبابي





جاء الموقف الإماراتي قويا وحاسما من الزيارة الاستفزازية التي أجراها أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى، وهذا الحسم ليس فقط نابعا من القناعة بالحق في السيادة على الجزر التي تحتلها إيران وإنما هو، أيضا، وليد قراءة دقيقة للنوايا الإيرانية التي تتخفى وراء هذه الزيارة.



فالصراع بين الإمارات وإيران حول الجزر ليس جديدا والاستفزازات الإيرانية تتكرر بين فترة وأخرى، لكن زيارة نجاد أثارت الحنق الإماراتي لأنها تتنزل في سياق سياسة عامة تحاول تصدير الأزمة عبر افتعال مشاكل هامشية، وليس خافيا على احد أن إيران تعيش ظروفا داخلية صعبة خاصة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بفعل العقوبات المفروضة عليها من الدول الغربية.



وهي عقوبات تهدد بأزمة خانقة في المواد التموينية والطبية، على وجه الخصوص، إضافة إلى تدني قيمة العملة المحلية ما يخلق أرضية خصبة للتضخم وارتفاع جنوني للأسعار.



يضاف إلى هذا حالة التململ السياسي والمذهبي والديني نتيجة القبضة الأمنية التي تقمع حرية الفكر وتراقب الانترنت وتزج بالخصوم في السجون، وهذا ما يفسر تجدد المظاهرات الاحتجاجية وتحديها للقمع الأمني، والمفارق، هنا، أن جزءا هاما من هؤلاء المحتجين هم أبناء قيادات فاعلة في ثورة 1979 ومن الجيل الذي فتح عينيه على شعاراتها ووعودها واكتوى بنار فشلها.



ولا شك أن العقوبات الغربية جعلت القيادة الإيرانية تتصرف تصرف اليائس الذي لا يدري ما يفعل ويحاول أن يلهي شعبه بقضايا خارجية عسى أن تغيّر من صورتها المهتزة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لكن الذي لا يدركه نجاد، أو هو يكابر ويتعامى عنه، أن الإيرانيين ملوا من الشعارات التي تلوح بمواجهة الامبريالية والاستكبار العالمي وتحرير القدس ونصرة آل البيت.. لقد صارت عيونهم مشدودة إلى الخبز ويبحثون عمّن يقاتل الفقر والبطالة لا من يقاتل الجيران.



لقد حاول نجاد أن يخلق محورا هامشيا يلهي الإيرانيين ويخفف من نقد خصومه لسياسته بالداخل والخارج خاصة أن إيران أصبحت على مرمى الصواريخ الغربية لعدم قدرتها على الحوار والمناورة في العلاقة بملفها النووي وفي طمأنة جيرانها.



إن الغرور "الثوري" الذي يتعامل به نجاد مع مطالب المجتمع الدولي ومع مخاوف محيطه العربي والإسلامي من هرولة إيران إلى التسلح التقليدي والنووي جلب لها مشاكل كثيرة وآخرها فكرة الدرع الصاروخية التي تحمي الخليجيين من شطحات نجاد ومزايدات أركان السلطة الإيرانية خاصة ما تعلق بالتلويح بإغلاق مضيق هرمز الذي يعتبر بمثابة إعلان حرب مفتوحة على كل المستفيدين من نفط الخليج.



لقد كانت زيارة نجاد رسالة إلى الخليجيين وإلى الدول التي يهمها أمن الخليج وحماية خطوط النفط، وهي دول كثيرة ونافذة، قبل أن تكون رسالة إلى الإمارات، وتعكس الرسالة هروبا إلى الأمام ومحاولة للتصرف بيأس في عملية أشبه ما تكون بالانتحار.



فما معنى أن تلوح القيادة الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، لا شك أنها واعية تماما بأنها تستنسخ تجربة صدام حسين في غزو الكويت وما ترتب عنها من تدخل قوى دولية في الخليج وعسكرته وتطور في ما بعد إلى حصار دام سنوات طويلة ثم انتهى إلى احتلال العراق وخلق حالة جيوسياسية جديدة بالمنطقة لا شك أن إيران أحد المتضررين منها حتى وإنْ تحالفت للإطاحة بصدام وإضعاف العراق.



وإن القراءة الاستشرافية الهادئة تقول إن إيران تقدم نفسها هدية من ذهب للقوى العالمية الكبرى وتسهّل عليهم خطة ضربها وتفتيتها وتعطيهم المبررات الأمنية والسياسية والأخلاقية في ذلك، فضلا عن استعداء جيرانها ودفعهم دفعا لأن يتخوفوا منها وألا يكونوا في صفها.



وفي مقابل الغرور الإيراني ومنطق فرض الأمر الواقع، مثلما يفعل الاستعماريون، فإن الإمارات تعاملت مع قضية جزرها المحتلة بأسلوب هادئ ينم عن خبرة دبلوماسية وعقلانية وبعد نظر، فقد دعت طهران إلى الحوار الثنائي على قاعدة عودة الحق لأصحابه، كما تبنت خيار اللجوء إلى التحكيم الدولي إذا فشل الحوار المتكافئ.



وكبادرة حسن نية على جدية الرهان على خيار الحوار، فحين اتفقت الإمارات وإيران على التهدئة حول قضية الجزر ووقف البيانات، التزمت الإمارات وسحبت الإشارة إلى الجزر من قرارات اجتماعات مجلس التعاون الخليجي واجتماعات جامعة الدول العربية، مثلما جاء في تصريحات لوزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد.



وواضح أن القيادة الإماراتية تريد أن تجر إيران إلى ساحة معقدة وصعبة على من اعتاد المزايدة بالشعارات والتلويح بالمواجهة، فساحة التحكيم الدولي تعني الاحتكام إلى القوانين والمواثيق الدولية وتقديم الحج والبراهين التاريخية وهذا ما لا تمتلكه إيران وتتهرب منه مثلما تتهرب من التفاوض حول محاولات امتلاكها السلاح النووي، "وإذا أثبتت إيران بالوثائق أن الجزر لها فلتأخذها"، كما قال أستاذ العلوم السياسية الإماراتي الدكتور عبدالله عبدالخالق.



ولا بد من الإشارة إلى أن نزوع طهران إلى التصعيد في قضية الجزر ومحاولة توطين إيرانيين فيها لتغيير الخارطة السكانية لأهلها الأصليين، هما رسالة تتجاوز الإمارات والخليج إلى بقية العرب ليفهموا أن الحياد البارد تجاه إيران لن يفيد أحدا.



فهذه دولة تحلم بأن تكون امبراطورية تصدّر ثورتها ليس فقط باتجاه الكويت والسعودية والبحرين واليمن ولبنان حيث توجد مجموعات للشيعة العرب، وإنما نحو مختلف أقطار العرب سواء عبر استقطاب بعض المجموعات السنية المتشددة وإغرائها بالتمويل أو عبر خلق مجموعات شيعية (مثلما يحصل في تونس والجزائر) والرهان عليها في الحصول على موقع قدم.



وبالتأكيد سيكتشف الشيعة العرب يوما أن إيران لم تكن راعيا ولا سندا لهم وأنها وظفتهم في لعبة أكبر منهم، هي لعبة استعادة المجد القومي لبلاد فارس بتوظيف الخطاب الثورة الراديكالي تارة أو الخطاب الطائفي الموغل في التشدد والانغلاق.



وختاما؛ يجب أن يردد العرب ما ردده وزير الخارجية الإماراتي منذ يومين في التعبير عن نفاد الصبر من السلوك السياسي الإيراني، الذي لم يفد معه الود ولا التمدن، حين قال: "لا نستطيع أن نترك الأمر إلى الأبد."



مختار الدبابي



كاتب وإعلامي تونسي



التحالف الحكومي والمعارضة في تونس: الهروب إلى الأمام للتغطية على التناقضات الداخلية




ميدل ايست أونلاين





مختار الدبابي





لم يفهم الكثير من التونسيين سر التصعيد بين حكومة الأحزاب الثلاثة وبين المعارضة، وهناك سؤال يطرح بكل إلحاح بعد المواجهات الحادة التي شهدها يوم التاسع من ابريل/ نيسان الجاري: أي خفايا لمعركة كسر العظم بين النهضة وخصومها؟



هناك مؤشرات على أن هذا التصعيد يعكس ارتباكا من الجانبين ومحاولة للهروب إلى الأمام للتغطية على وضع حزبي عجز عن مواكبة الحالة الديمقراطية بما توفره من فرص للحوار مع الناس وعرض الأفكار والبرامج والسعي لرسم عناصر التميز عن الآخر فكريا وسياسيا.



خلط الأوراق في ساحة تحكمها الفوضى والغموض ليس سوى عمل مرتّب غايته الوصول إلى الانتخابات في ظروف شبيهة بالانتخابات السابقة حيث فضل 48% من التونسيين عدم التصويت لأنهم لم يقدروا على التمييز بين أحزاب فاقت المئة.



والحقيقة التي يعرفها الشارع التونسي، والكثير من المثقفين والفاعلين السياسيين والحقوقيين، أن المعارضة لم تكن لها برامج قبل ثورة 14 يناير، كان برنامجها الوحيد نقد النظام، وحين جاءت الثورة لم تجد هذه الأحزاب إلى غاية انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011 الوقت لتقدم برامج وليدة دراسات معمقة ونقاشات داخلية، عدا أحزاب قليلة قدمت برامج حتى وإنْ كان بعضها متعجلا ومربكا.



وليست البرامج وحدها التي تعوز غالبية الأحزاب الفاعلة، بل هناك أزمات داخلية وخلافات وانشقاقات يتحتم تأجيل صعودها إلى السطح عبر الهروب إلى الأمام واختلاق عدو في هيئة نظام بن علي والدعوة إلى الإطاحة به (بالنسبة إلى المعارضة)، أو تصوير المعارضة كما كان يصورها النظام السابق بكونها خائنة وتمارس التحريض والتآمر لدى السفارات الأجنبية (بالنسبة إلى الحكومة).



وتكفي متابعة الصحف والمواقع الإلكترونية وصفحات شبكات التواصل الاجتماعي لمعرفة أزمات مختلف الأحزاب والخلافات التي تتهددها.



حركة النهضة، التي تتزعم الحكومة وتستفيد من حالة الأزمة المفتوحة ولعبة خلط الأوراق وإغراق الساحة في قضايا هامشية، تكاد تكون التنظيم الوحيد الذي يخلو من الانشقاقات وصراع الأجنحة والزعامات الذي تعجز المؤسسات الداخلية عن تحمله فيخرج إلى الصحف والمقاهي.



فباستثناء انسحاب مجموعة من القيادات التاريخية البارزة (عبدالفتاح مورو وفاضل بلدي وبنعيسى الدمني) في بيان التبرؤ الشهير من حادثة حرق مقر الحزب الحاكم السابق (حادثة باب سويقة 1991) لم تعرف "النهضة" اتشقاقات تذكر.



لكن الأزمة التي يمكن أن تهدد النهضة وتربكها في الانتخابات هي قضية الشريعة، وقد هدأت هذه الأزمة ظرفيا لأن المجموعات الإسلامية من داخل النهضة وخارجها فضلت التوحد في مواجهة تصعيد المعارضة وخطاب المزايدة الذي تنتجه.



لو أن الأوضاع السياسية في البلاد كانت مستقرة، ربما لم تكن هذه الأزمة لتمر دون أن تحدث تصدعات في هذا الجسم الكبير المترامي الأطراف، الذي يجمع بين المتناقضات الفكرية والسياسية، يجمع من يؤمن بعلمانية أردوغان ويطالب باستنساخها، ومدنية عبدالفتاح مورو، وثورية راشد الغنوشي، وسلفية الصادق شورو والحبيب اللوز.



وحين أعلنت النهضة أن الفصل الأول من الدستور يكفي ولا حاجة للتنصيص على اعتبار الشريعة المصدر الوحيد أو مصدرا للتشريع، شهدت صفحات الشبكات الاجتماعية حملات تخوين واستخفاف وخيبة أمل من كون قيادات "النهضة" راعت مزايدات المجموعات العلمانية، وضغوط القوى الخارجية وتخلت عن المبدأ، وراجت تصريحات للقيادي الحبيب اللوز يعلن فيها معارضته للقرار ووصفه كثيرون بسبب ذلك بأنه الرجل المبدئي الذي يجب الاصطفاف وراءه لتبني خيار فرض الشريعة في الدستور.



إن المعارضة التي تسعى للتوتير وخلط الأوراق إنما تعطي الفرصة للنهضة كي تظل متماسكة داخليا وقوية الصلة بمحيطها الإسلامي وتصل إلى الانتخابات في أفضل الظروف، ونورد هنا تصريحا لأحد الشيوخ السلفيين الذين لديهم خلافات نوعية مع النهضة، لكنه يحث على دعمها في مواجهة "العدو" ما يؤكد أن "الساحة الإسلامية" تتقن المناورة وتتجاوز عن الخلافات الثانوية في مواجهة "العدو الاستراتيجي".



يقول الشيخ حسين العبيدي متحدثاً عن التحالف القائم بين فصائل التيار الإسلامي "نحن جيش مصطف متكون من عدة سرايا وكل سرية تحمل راية لا اله إلا الله والسرية الاولى المتمثلة في النهضة تقدمت واعطيناها الراية الكبرى لمواجهة العدو وبقينا نحن كسند لنلتحق بها وكلما تقدمت خطوة وتوغلت في الحكم إلا ونحن ورائها حتى نقيض من الداخل ونحقق التمكين ثم نمتد أما أن نبقى متفرجين ونهاجم بعضنا البعض فليس من الحكمة في شي".



أما شركاء النهضة في الحكومة فيعيشان حالة من الانقسامات، فالمؤتمر من أجل الجمهورية الذي يرأسه منصف المرزوقي فيعيش خلافات بدأت بالصراع بين قياداته حول قائمة الوزراء الذين يمثلون الحزب في حكومة التحالف، ثم حول الأمانة العامة للمؤتمر بعد استقالة المرزوقي منها لممارسة مهمة رئاسة الجمهورية استجابة لشروط القانون المنظم للسلط الذي أقره المجلس التأسيسي.



أما "التكتل من أجل العمل والحريات" الشريك الثالث في الحكومة فشهد "تمردا" على القيادة ممثلة في رئيس المجلس التأسيسي، والرئيس الاعتباري للحزب، بسبب تحالفها مع "النهضة" في الحكومة و"سكوتها" على التجاوزات التي تمت خاصة ما تعلق بالحريات العامة والخاصة من قبل السلفيين.



واعتبر المعارضون لبن جعفر أن التعامل السلس للحكومة مع المجموعات التي تكفّر السينمائيين والمثقفين وتهدد حقهم في الإبداع الحر إنما هو تغطية عليهم وضوء أخضر كي يواصلوا ما بدأوه وأن سكوت قيادة التكتل ووزرائها في الحكومة يدخل في خانة خيانة القاعدة الحزبية التي اختارتهم لكونهم مدافعين عن حقوق الإبداع وعن الحريات.



وشهد الحزب استقالات هنا وهناك طالت حتى نوابا للحزب في المجلس التأسيسي أبرزهم خميس قسيلة.



أما أحزاب المعارضة فتشهد انشقاقات تكاد تكون يومية رغم حركة التوحيد التي تشهدها الساحة التونسية لأحزاب متقاربة فكريا وسياسيا مثل "الحزب الجمهوري" الذي يمثل الحزب الديمقراطي التقدمي بقيادة عضوي المجلس التأسيس نجيب الشابي ومية الجريبي مركز الثقل فيه.



وبمجرد انتهاء أشغال المؤتمر الخامس للحزب ثم إعلان "التوحيد" في الحزب الجديد حتى شهد "الديمقراطي التقدمي" استقالات بالجملة من قيادات عليا ومتوسطة بسبب عدم رضاها عن التوحيد وخاصة عن أسماء القيادات التي صعدت من الحزب لتكون ممثلة في المؤسسات القيادية للحزب الجديد.



ومن أبرز القيادات التي علقت نشاطها بسبب "ما وقع في المؤتمر الخامس للحزب من تجاوزات وإخلال بالعملية الديمقراطية" تسعة نواب في المجلس التأسيسي يتقدمهم رئيس الكتلة محمد الحامدي.



وفي هذا الإطار أرجع عضو اللجنة المركزية وعضو الأمانة الوطنية للشباب وسيم بوثوري، في تصريح لصحيفة "الصباح" التونسية جذور ما يحدث داخل الحزب إلى فترة ما بعد الانتخابات قائلا "بعد هزيمة 23 أكتوبر 2011 (في الانتخابات) اجتمعت اللجنة المركزية للحزب وصادقت على تقرير يشخص أسباب الهزيمة ويحدد آليات الإصلاح داخل الحزب وانطلاقا من هذا التقرير بدا يتشكل تيار إصلاحي ينادى بضرورة تحديد آليات اتخاذ القرار وترشيد اتخاذ المواقف السياسية وتم الاتفاق على أن يكون المؤتمر القادم للتقدمي فرصة للإصلاح غير انه وخلافا لما وقع الاتفاق حوله فقد سبقت أشغال المؤتمر حملة تشويه استهدفت رموز التيار الإصلاحي."



ولا يقف الأمر عند الأحزاب المصنفة كبيرة من حيث عدد منخرطيها وتمثيليتها في المجلس التأسيسي، بل يمتد إلى مختلف الأحزاب الصغيرة الأخرى التي تتكون من عشرات المنخرطين ثم تتشظى سريعا لخلاف بين الشخصيات المؤسسة لها، ومنها ما اختفى لتوقف التمويل خاصة من رجال أعمال راهنوا على أن يجدوا لهم موطئ قدم في التأسيسي وحين فشلت الأحزاب التي أسسوها أو دعموها سحبوا التمويل.



والسؤال الذي يطرح في الساحة التونسية الآن، هل تنجح محاولات التوحيد التي بدأت خلال الأسابيع الأخيرة في إنقاذ الأحزاب ومن ثمة في إرساء التوازن بالساحة السياسية التي تبدو فيها "النهضة" اللاعب القوي والمنظم؟



الإجابة تكون بالإيجاب طبعا، لكن صعوبة تحقق هذا التوحيد يجعل المسألة معلقة بانتظار قدرة بعض الأحزاب والزعامات على تقديم التنازلات المؤلمة التي تقوي تياراتهم ولو تطلب الأمر إعلان الانسحاب الشخصي من الحياة السياسية أو رفض الترشح خاصة في الانتخابات الرئاسية.



الحديث عن توحيد أحزاب الوسط مطلب مهم لأطياف سياسية وحقوقية وإعلامية على أمل أن يرتقي إلى مستوى يكون فيه قوة توازن مع "النهضة" والمجموعات التي تدعمها، لكن أي وسط ومن يتحالف مع من؟



فالقوة الصاعدة الآن في "تيار الوسط" هي قوة المجموعات التي تريد أن تستظل بالظل البورقيبي، والتي يقودها رئيس الوزراء المتخلي الباجي قائد السبسي، وهي مجموعات تحاول الاستفادة من ارتباك الحكومة الحالية وقلة خبرتها ومن مخاوف دوائر حقوقية ورجال أعمال وفئات شعبية على مكاسبهم في ظلها.



قوة هذا القطب ليس في رهانه على الإرث البورقيبي وإنما في تجميع الغاضبين على حكومة النهضة، وخاصة الغاضبين على الثورة، ممن كانوا في الحزب الحاكم السابق أو المستفيدين منه والذين يتخوفون من فتح ملفات المحاسبة وكسر احتكارهم لبعض القطاعات والخدمات، يضاف إليهم جزء من التونسيين أصبح مقتنعا بأن الأحزاب الأيديولوجية لا تقدر على بناء الدولة وإدارتها وأن عودة "البورقيبيين" أهون الشرين.



قطب الباجي قائد السبسي يلقى دعما من أحزاب وسط اليسار (الذي يبحث له عن دور ما في هذا القطب) والجمعيات الحقوقية والمدنية والنقابية الغاضبة من طريقة إدارة "النهضة" للدولة وتخوفها على "قيم الحداثة" والمكتسبات المدنية بالبلاد، وتخوفها من أن تحقق الحكومة بعض النجاح فتستمر في السلطة بعد الانتخابات، كما تلقى "البورقيبة" دعما كبيرا من قطاع الإعلام الذي لوحظ فيه احتفاء خاص بمبادرة السبسي وبشخصيات شريكة له في السعي لاستعادة مجد "البورقيبية".



لكن الحكومة الحالية قد تضع منغصات أمام هذا الصعود البورقيبي من خلال سن قانون يمنع على من تحملوا مسؤوليات في الحزب الحاكم السابق الترشح للانتخابات، وهو ما يتم الترويج له إعلاميا وسياسيا من أنصار الأحزاب المشكلة للحكومة.



وعموما، فإن الأحزاب الذكية هي التي تربط مصيرها بالمواطن وتقترب منه فتعرف بنفسها وتقدم له رؤيتها للحلول أما حصر الصراع في دائرة الشعارات وتصفية الحسابات بين الفرقاء فيزيد من عزلة الأحزاب ويباعد بينها وبين القواعد الانتخابية الباحثة عن الاستقرار الأمني قبل الخبز في أحيان كثيرة.



مختار الدبابي



كاتب وإعلامي تونسي

الثورة نكأت جروح المعارضة التونسية.. اليسار يترنّح والقوميون تائهون



النهضة بين السلفية و المدنية

لم تهتز الأنظمة وحدها في الثورات التي شهدتها بعض الأقطار العربية، بل امتد لهيب النار إلى المعارضات بمختلف مشاربها لتجد نفسها في مواجهة وضع تهربت منه طويلا، وهو المشاركة في السلطة وترك مقعد المعارضة لأشخاص آخرين بعد أن ظلت عقودا كثيرة بمهمة واحدة تقتات منها، وهي تسقّط أخبار الأنظمة وأخطائها والتشهير بها.



التونسيون يتطلعون الى انتخابات ترسم مستقبل البلاد

في ظاهر الصورة، تجد المعارضات في تونس ومصر، مثلا، في حالة استبشار بما جرى، لكن في ما وراء الصورة ثمة إحساس كبير بالخوف من تغير الدور والمهمات.. لقد كان تحبير البيانات أمرا سهلا ومريحا ونتائجه مضمونة في استقطاب الناس وتحويل قيادات الأحزاب إلى رموز وطنية.

أما الآن فالمطلوب تقديم الفعل على الكلام، والبرهنة بالمشاريع والأفكار على أن المعارضات هي فعلا البديل الحقيقي لأنظمة الاستبداد والفساد التي تركت بلدانها قاعا صفصفا.



ورغم أن معارضاتنا إلى الآن تواصل مهمتها القديمة في جلد الأنظمة وتوسع قائمة أنصارها والمتعاطفين معها بالنبش في سجلات من سقط من الحكام وفضائح أسرهم وحاشيتهم، فإن لحظة الحقيقة الجديدة ستكون مع الانتخابات التي تفترض من الأحزاب أن تقدم أفكارها وبدائلها لإنقاذ البلاد من حالة الفوضى والتأسيس لمرحلة الاستقرار.

جلد الأنظمة لن يكون ذا جدوى لأن الأحزاب التي كانت تسندهم تم حلها، كما في تونس، أو هي في طريق الحل القانوني والشعبي كما في مصر، والمنافسون في الانتخابات لديهم قصص وحكايات مع القمع والسجن وإنْ بدرجات متفاوتة.



ومرد الإحساس بالخوف لدى أحزابنا العربية هو أنها ظلت نصف قرن أو يزيد وهي تتكلم وتستعيد نفس الخطاب والمفردات التي تصلح لكل زمان ومكان من دون أن تختبرها ولو لحظة في الواقع العملي بما في ذلك داخل تنظيماتها. فالديمقراطية مثلا التي يتبناها الجميع في خطابهم التبشيري اليومي ليس هناك مؤشرات على أنها تطبق في الداخل، ذلك أن قيادات أغلب الأحزاب العربية تحتكر الرئاسة والأمانة العامة والمكاتب السياسية والتنفيذية منذ عقود وتعلل هذه الاستمرارية بالحصار والتضييق والمطاردة، وهي تنافس الأنظمة في ما تتهمها به كالديمقراطية الشكلية والرئاسة مدى الحياة وظاهرة التوريث.





راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة

والتوريث لدى المعارضة ليس توريث الأبناء وإنما توريث المريدين والمقربين للرئيس أو الزعيم التاريخي، وهو ما يفسر سرعة الانشقاق والتشظي وتكوين أحزاب صغيرة تستجيب لكاريزما الأشخاص، وهذا يحدث خاصة في الأحزاب اليسارية العربية.



ومن حسن الحظ، أو ربما من سوئه، بالنسبة إلى الأحزاب العربية أن استثمار نتائج الثورات لم ينته إلى انقلاب عسكري أو أمني يعيد إنتاج الديكتاتورية، وإنما انتهت اللعبة بين مختلف المتدخلين إلى القبول بتجربة الانتقال الديمقراطي والاحتكام إلى صناديق الاقتراع.

الانتقال الديمقراطي يعني بداهة تقييم حجم الأحزاب بمختلف عائلاتها الفكرية والأيديولوجية الكبرى، واختبار قدرتها على التلاؤم، ولو على مستوى الخطاب، مع انتظار الشارع، أو المناورة في إقناعه بأنها الأقرب إلى تحقيق مطالبه في النهوض.



لقد حققت الثورة التونسية الفرصة للجميع كي يلتقوا بالناس من دون خوف أو مطاردة وسحبت عنهم رداء المظلومية والتباكي من القمع، وليس أمام الأحزاب إلا أن تستثمر الفرصة كي تخرج من دائرة الكتب والدفاتر القديمة وتتحول إلى أدوات للتغيير المجتمعي تحت أعين الناس.

وسنأخذ، هنا، حالة المشهد التونسي مجالا لقياس استعداد الأحزاب للمساهمة في مرحلة الاشتراك بالسلطة سواء من بوابة الحكم أو عبر بوابة المعارضة.



الإسلاميون وصدمة السلطة على طبق

في تونس، كما في مصر وليبيا واليمن وسوريا، تضع استطلاعات الرأي وتحاليل الخبراء الإسلاميين في مقدمة من سيختارهم الشعب في أي انتخابات تتحقق فيها النزاهة والشفافية، لكن هذه الحظوة يمكن أن تنقلب إلى عامل خوف يقض مضاجع قياداتهم من سلطة تأتيهم على طبق من فضة.

مختلف الاستطلاعات التي تسبق انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في تونس (23 أكتوبر 2011) تضع حركة النهضة في مقدمة الفائزين رغم أن القانون الانتخابي وضع أمامها عقبات كبيرة لتحول دونها والحصول على الأغلبية، وقد صادقت عليه من دون احتجاج بل شجعت بعض حلفائها على القبول به.





نشاط لافت لحزب التحرير في تونس

والسرّ في الحكاية أن القانون الانتخابي سيحول دون توريطها في الحكم لوحدها وهو يفترض وجوبا وجود “توافق” أو “تحالف” ما لتشكيل حكومة وحدة وطنية أو اتخاذ أي قرار مستقبلي، وهكذا تهربت النهضة علنا من السلطة رغم تناقض هذا الموقف مع موقف شهير وصادم لزعيمها التاريخي الشيخ راشد الغنوشي.

يقول الغنوشي في نقد خفي للموقف الغالب في مؤسسات النهضة ولدى قيادتها البراجماتية “على الحركة الإسلامية أن تغادر مواقع الحذر والانكماش مما ورثته من عهود القمع المديدة المؤلمة وأن تفتح أعينها على العالم الجديد وأن تنخرط في أمواج شباب الثورة وتمضي معه بدل أن تعيقه بهواجسها”.



ويضيف الرئيس الحالي لـ”النهضة” الذي وعد بترك هذا المنصب خلال المؤتمر القادم للحركة محددا موقع الحركات الإسلامية وفي قلبها “النهضة”: “عليها أن لا تشارك بأي وجه في تزييف إرادة الشعب ولو بتحجيم نفسها عمدا فذلك شكل آخر من صور التزييف. كل حزب في العالم يخوض معاركه الانتخابية بقصد تحقيق أعلى مستويات النجاح إلا الحركة الاسلامية العربية فتبدو – بأثر الماضي الأليم- مرتعبة من النجاح ، تحجّم نفسها وتصّاغر… (إنه) أمر مؤسف. ليترك الشيوخ المنهكون مواقعهم للشباب يمضون بالثورات الى منتهاها بلا زيف ولا تصاغر في ضرب من قتل النفس”.



وفضل الغنوشي المفكر على “النهضة البراجماتية” أنه أزاح عنها الحرج ودفعها إلى مغادرة منطقة المنزلة بين المنزلتين في قضية مصيرية بالنسبة إلى تونس، وهي قضية الحزب الذي يحتكر الكلام والإفتاء والتأويل باسم الدين، وذلك بتبني التحول إلى حزب مدني ذي خلفية إسلامية على شاكلة حزب العدالة والتنمية في تركيا.

والأمر يعني، هنا، تأجيل الحديث عن تطبيق الشريعة و”أسلمة المجتمع” والنهوض بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتخاذ موقف اجتهادي صادم في قضية تعدد الزوجات، وهذا يدخل في سياق المقاربة التي أسس لها الغنوشي، وهي أن الأولوية تكون لإقامة دولة الحريات وليس دولة الشريعة.



لكن النهضة التي تتكون معظم قيادتها من مهندسين وأطباء وجامعيين في اختصاصات علمية لا تهتم كثيرا لهذه المسائل، وهي تناور لتكون فضاء جامعا لـ”النهضة السلفية” التي يمثلها بعض الشيوخ التاريخيين والأئمة والشباب الذين تتلمذوا على الفضائيات الدينية ولـ”النهضة المدنية” التي تتبنى القبول بحرية الرأي والمعتقد والحريات الشخصية، وهي مدعوة إلى أن تقبل فرضية نقد الدين والمس من المقدسات في وسائل الإعلام المخالفة، وأن تتحمل وجود اللباس المتحرر، والإفطار في رمضان، وظهور التبشير إلى العلن.

ونتوقع أن تنشطر “النهضة” إلى “نهضتين” بعد الانتخابات التي وحدت الصفوف في مواجهة “يسار حاقد” و”علمانية استئصالية”.





السلفيون.. استعراض للقوة

*نهضة أولى سلفية، أو لنقل إسلامية، تدافع عن تطبيق الشريعة وتتحالف مع التيار السلفي الصاعد بقوة رغم تواضع آلياته الفكرية والحجاجية، ومع حزب التحرير الذي يتبنى القراءة الحرفية للنصوص ويضع هدفه الاستراتيجي إقامة الخلافة، ومع مجموعة “الدعوة والتبليغ”، وتكوين حلف محافظ.

*ونهضة ثانية مدنية ستتحالف آليا مع اليسار الإسلامي (المنضوي راهنا تحت حزب الإصلاح والتنمية) ومع قطاع واسع من المستقلين الإسلاميين الذين يمثلون ثقلا كبيرا في الساحة ونشط الكثير منهم في النهضة ثم خرج عنها لأسباب عدة أهمها غياب الديمقراطية الداخلية، وتهميش المقاربات الفكرية والثقافية، وخاصة محاولة إرضاء الأفكار المتناقضة داخلها بمواقف غامضة تحتمل التأويل ونقيضه، بالإضافة إلى تحالفات ممكنة مع قوى ليبرالية ووطنية غير أيديولوجية.



ولا شك أن “النهضة المدنية” ستجد سندا لدى شرائح واسعة من الشارع التونسي المتدين ولكن بمواصفات مذهبية وسطية ومنفتحة على الآخر، ثم بمواصفات شارع يريد أن يعيش في أجواء ليبرالية لا تُحصي عليه أنفاسه وتتدخل في تفاصيل حياته، وهذا الشارع باعتقادنا هو الذي يمثل 60 في المائة من التونسيين الذين لم يحسموا أمرهم في التصويت لأي طرف أياما قليلة قبل الانتخابات.



وبالخلاصة، فإن التيار الإسلامي ذا الحضور الشعبي الكبير حتى وإنْ تحالف داخل المجلس التأسيسي وحاز أغلبية مريحة، فإنه سيشهد خلال الأشهر القادمة صراعا فكريا مذهبيا كبيرا سيجعله ينقسم إلى مجموعات بعضها سيختار الجلوس على الربوة تماما مثل المرجئة ويقتصر دوره على إصدار الفتاوى التي تكفّر هذا الشق وذاك ويحرّض أتباعه على المزيد من التشدد والانغلاق والانفصال على المجتمع، وبعضها الآخر سيختار دخول معترك الحياة السياسية والمشاركة في السلطة وسيجد نفسه بمرور الوقت يتحول إلى تيار مدني محلي (تونسي) يحمل لواء خدمة الناس.



اليسار.. التطور المستحيل

إذا كانت حركة النهضة، مسنودة بالتفاف مجموعات إسلامية من حولها، قد دخلت الصراع السياسي الراهن بإرث نضالي في مواجهة النظام السابق ما أكسبها تعاطفا لافتا، فإن جزءا لا بأس به من اليسار التونسي اختار أن يظل في خدمة نظام بن علي أو في أحسن الأحوال في موقع أنا لست معك أو لست ضدك، وهي وضعية ساهمت في انسحاب الكثير من قواعده وتراجع شعبيته وإنْ حاول البعض أن يتجاوز هذه الوضعية باستعادة الشعارات الثورية القديمة والمزايدة على الخصوم.



وهنا يقول الكاتب اليساري مصطفى القلعي في مقال له بعنوان “تنادٍ إلى قراءات نقديّة لواقع اليسار التونسي – مسؤوليّة اليسار قبل الثورة وبعدها” واصفا سلبيات “انفتاح” اليسار على بن علي “لقد نجح الحكم النوفمبريّ في تفتيت اليسار وفي سلبه أحلامه في المشاركة السياسيّة. لقد غدر به بكلّ بساطة. ووجد اليسار نفسه في عنق الزجاجة، إذ عليه أن يبرّر اختياراته ومواقفه وممارساته وسقطاته في أحضان بن علي لروّاده ومريديه ومناضليه” (موقع الأوان – 12 آيار 2011).



وبالإضافة إلى إحراجات الموقف التاريخي من مؤازرته بن علي في القضاء على خصوم أيديولوجيين (الإسلاميين)، فإن إرباك اليسار التونسي يأتي من حالة التشظي الداخلي والانقسامات المتعددة والمتواصلة قبل الثورة وبعدها ما يفقد هذه الكتلة الأيديولوجية فاعليتها السياسية والاجتماعية وقدرتها على منافسة القطب الإسلامي والدخول معه في صراع فكري وسياسي يدفع بالاثنين معا إلى التطور والتخلص التدريجي من الشعارات “الثورية” التي تخفي إحساسا واهما بامتلاك الحقيقة والقدرة على قيادة البلاد دون حاجة إلى وفاق أو تنازلات متبادلة.





صورة لن تراها الا في تونس لفتاة محجبة من أنصار حزب العمال الشيوعي

ولعل تهرب اليسار من فتح حوار فكري شامل مع الإسلاميين والقوميين على السواء ناجم بالأساس، عن إحساس بأزمة ما في العلاقة بالهوية العربية الإسلامية، فأغلب اليسار التونسي إلى ما قبل الثورة كان يعتبر الهوية العربية الإسلامية عاملا ثانويا يمكن تهميشه، وموقفه هذا كان المبرر الرئيس لتحالفه مع بن علي أو لنقل استنجاد بن علي باليسار لخوض معركة الاجتثاث أو “تجفيف المنابع”.



وكانت البداية مع المناضل الحقوقي محمد الشرفي الذي استقطبه الرئيس السابق وزيرا للتربية فقاد عملية إصلاح التعليم بهدف أساسي هو صرف الناشئة عن كل ما هو ديني لضرب النهضة بالنسبة إلى بن علي ولمحاربة “أفيون الشعوب” بالنسبة إلى “مناضلي” اليسار.

ثم فتح الأستاذ الشرفي الباب واسعا أمام “مناضلي” اليسار ليقودوا “لجان التفكير” في نظام بن علي المكلفة بمواجهة الظاهرة الدينية بما في ذلك بعدها التعبدي اليومي (خاصة الصلاة).



والصدمة الآن أن اليسار الذي كان يدعم جهد بن علي في محاصرة الديني وضربه بكل حزم في مختلف المؤسسات، تغير موقفه فجأة فأصبحت الأحزاب اليسارية بمختلف خلفياتها التروتسكية والروسية والماوية والألبانية تطالب “النهضة” بألا تتاجر بالمشترك الوطني، أي الإسلام.



لم تتم مراجعات يسارية حقيقية في العلاقة بمسألة الهوية وخاصة الدين، والانقلاب المفاجئ ناجم عن اللعبة السياسية التي استغرقت هذا التيار طويلا وحالت دونه واستثمار نقاط الضوء الكثيرة في منظومته الفكرية منها ما تعلق بالحداثة، والعدالة الاجتماعية ومحاربة الرأسمالية، والمثير أنك لا تسمع الآن زعيما يساريا تونسيا ينتقد اقتصاد السوق ويطالب بالاقتصاد الموجه وعودة الدولة للعب دورها التاريخي في التحكم بمختلف الآليات الاقتصادية والاجتماعية.

هل ثمة مراجعة ما لليسار التونسي تخلص فيها من فكرة الاقتصاد الموجه وتبنى اقتصاد السوق المعدل ونهوض الدولة بدور الرقيب؟



هذه المراجعات لم تصدر بعد ولم نقرأها ولا سمعنا بها!

وواضح أن اليسار يضع نصب عينيه لعبة السياسة واتجاهاتها بمنطق البراجماتية، وهنا يقول مصطفي القلعي في ذات المقال سالف الذكر:

“إنّ العجب والاندهاش ليصيباننا ونحن نرى اليسار التونسيّ مستمرّا على النهج نفسه رغم التحوّلات العاصفة التي شهدها المجتمع التونسيّ منذ مطلع سنة 2011. فمن الغريب أن يسير اليسار دائما دون أن يلتفت إلى الوراء قليلا، ودون أن يتشوّف الآتي. إنّه لا يرى إلاّ بين قدميه. وهو يتوهّم أنه يتقدّم. فهو يبدي هوسا عجيبا بالممارسة السياسيّة؛ السياسة باعتبارها مصالح ومكاسب وتحالفات خفيّة وعلنيّة غايتها في النهاية الوصول إلى الحكم”.



ويضيف “لم يتناد اليسار إلى الحوار والنقاش بين أطيافه. بل إنّه أصرّ على خلافاته التي ورث أغلبها من الحياة الطلابيّة في مختلف الأجزاء الجامعيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي. نرصد هذه الحال ونحن نراقب الدعوات الفاترة التي يتبادلها زعماء اليسار السياسيّ لتكوين جبهات سياسيّة استعدادا لخوض المحطّات الانتخابيّة القادمة”.



التيار القومي.. في البحث عن مكان تحت شمس الثورات

أزمة هذا التيار في تونس، ونعني أساسا التيار الناصري، تبدأ من كونه لا يظهر في الساحة إلا في حالة الانفراج السياسي، وحين الأزمات يختفي تماما ولا تظهر منه إلا بعض البيانات المتباعدة في الزمن، وحين يظهر إلى العلن سرعان ما تتقاذفه الانقسامات المرتبطة أساسا بزعامة الأحزاب، ويكفي الإشارة هنا إلى الاندماج بين فصيلين قوميين هما “حركة الشعب” و”الحركة الوحدوية التقدمية” وتشكيل حركة الشعب الوحدوية التقدمية لتعبر عن وجهة نظر التيار وتتقدم باسمه في انتخابات المجلس التشريعي، لكن سرعان ما استقال المنسق العام للحركة المحامي بشير الصيد وتتالت معها استقالة الكثير من القيادات الوسطى في مختلف المحافظات التونسية.

واتهم الصيد عناصر من القيادة (ما يطلق عليهم خصومهم مجموعة الوافدين، محامون ونقابيون) بكونها تصرفت خارج الشرعية في ربط تحالفات سياسية خاصة مع حركة النهضة في ما يتعلق برفض فكرة الاستفتاء لتحديد صلاحيات المجلس التأسيسي ومدته.

وفسر بعض المراقبين استقالة الصيد بأنها تدخل في سياق صراع الزعامات بين الجيل القديم والجيل الجديد لهذا التيار كما تأتي امتدادا لتقييمات نوعية في العلاقة بما جرى في ليبيا وسوريا، حيث يرى “الوافدون” أن هذه الأنظمة لا تمثل المشروع القومي بل هي تتناقض مع مصالحه الاستراتيجية، وهو موقف قابله شق آخر بالمعارضة الشديدة خاصة في ما يتعلق بليبيا/ القذافي التي كانت للتيار القومي علاقات قوية معها باعتبارها نموذجا قوميا.





تونس بين الدولة الدينية والدولة المدنية

وعلاقة التيار العروبي الناصري بالأنظمة القومية هي النقطة المركزية في واقع التيار ومستقبله، وهناك دعوات إلى قراءات مغايرة للتجارب القومية يتمسك خلالها التنظيم باستقلاليته الفكرية والسياسية تجاه هذه التجارب، بمعنى أنه يدافع عن الإيجابي فيها ويتخلى عن السلبي وينتقده ويدعو إلى تجاوزه.

فالأنظمة القومية فشلت فشلا ذريعا في قضية الديمقراطية، لا من حيث وسيلة وصولها إلى السلطة حيث جاءت كلها عبر الانقلابات، ولا من حيث أسلوب حكمها حيث بنت تجاربها على تضخيم الزعيم وتغييب المؤسسات وخوض معارك هامشية لا تعطي الانطباع الإيجابي على نموذج الحكم القومي في بناء التجربة المعبرة عن تطلعات مختلف الفصائل القومية الناصرية.



وباستثناء المواقف الممانعة في العلاقة بإسرائيل، وهي مواقف لم تُختبر على الأرض سوى في 1967 حيث منيت التجربة القومية بالهزيمة لسوء الإعداد والتقدير وتفوق الحلم الأيديولوجي على الحساب الدقيق للإمكانيات، فإن التجارب القومية لم تُعط النموذج الاجتماعي والاقتصادي ما يجعلها مرجعا تستند إليه الفصائل القومية في الاستقطاب السياسي.



وهناك معضلة أخرى لهذه الفصائل هي أنها تغلب الجانب القومي الوحدوي على القضايا القطرية، فحلولها للأمة تقف عند حدود يافطة الممانعة بما تعنيه من تضخيم لدور الأجنبي في التأثير والفعل واكتفائها بموضع المظلوم، وفي هذا السياق يقول الكاتب عبدالله القفاري في توصيف هذه الحالة: “أزمة هذا التيار، انه يبدو اليوم متحالفا بشكل أو بآخر، مع مشروع الممانعة وأزمته ايضاً انه تيار رفض لا تيار خلق واستنارة ومشروع، وأزمة هذا التيار انه يتوسل بحقيقة الظلم التاريخي وموازين اللاعدالة الدولية لكنه لا يقدم مشروعا يمكن الوثوق بملامحه، ولا يعترف بايجابيات مرحلة، ولا يحاول ان يستفيد من جملة تحولات يمكن استثمارها في صالح الإنسان” (– جريدة الرياض – 28 آذار 2005).



لكن لا بد من الاعتراف أن الساحة القومية في تونس بدأت تفكر في الاتجاه المحلي من خلال تحول التنظيم إلى قوة نقابية في ساحة المحاماة (انتخابات الهيئة الوطنية للمحامين، وانتخابات الفروع)، وفي ساحة التعليم الابتدائي والثانوي بعد أن كان جزء هام من هذه الساحة يردد بافتخار شعار القذافي الشهير “التمثيل تدجيل” في إشارة إلى مقاطعته للنقابات.



وهناك تطور آخر يخص كسر الجمود في العلاقة بالتيار الإسلامي، وهي علاقة تنوء تحت وطأة تاريخ من المواجهات بدءا بالتجربة الناصرية (مصر) وصولا إلى حماة 1982 (سوريا)، وأبو سليم 1996 (ليبيا)، وهناك خطوات في اتجاه التحالف في المجلس التأسيسي بين حركة الشعب الوحدوية التقدمية وبين حركة النهضة والفصائل التي تتحالف معها بين أن ظل القوميون في تحالف طويل مع تيارات اليسار.



وهكذا، فإن الكتل السياسية الكبرى (باختلاف أحجامها وتنظيماتها) وجدت نفسها مضطرة إلى أن تشارك في عملية سياسية لم تكن تستعد لها، وهو ما نكأ جروحها وفضح تناقضاتها، وفتح لها السبيل، وهذا الأهم في اعتقادنا، نحو تطوير خطابها وممارستها وتجديد شبكة تحالفاتها وفق متطلبات المرحلة.



مختار الدبابي

17/10/2011

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

ثورة الحرية في تونس تعيد إنتاج سلطة القمع

First Published: 2012-04-10




ميدل ايست أونلاين





مختار الدبابي





ما أشبه اليوم بالبارحة..



تونس التي اجترحت طريق الثورات وفتحت الباب واسعا أمام شعوب عربية أخرى كي تنتفض ضد الاستبداد والفساد، هي نفسها تعيد إنتاج دولة الاستبداد في أشهر قليلة من تسلم حكومة النهضة للسلطة بعد انتخابات اتسمت بالشفافية والنزاهة وإنْ كانت نتائجها لم تعكس طبيعة التوازنات القائمة في البلاد.



ما الذي تغيّر كي تمارس قيادات، أفنت سنوات طويلة في السجون والمنافي من أجل لحظة حرية وكرامة، القمع المنظّم على مجموعات من الجماهير كان دورها مؤثرا في نجاح الثورة التي حررت الحكام الجدد وسلمتهم السلطة على طبق من ذهب؟



الإجابة عن السؤال قد يغلب عليها التردد والتبرير لدى هؤلاء الذين حبّروا منذ 1981، تاريخ تأسيس تنظيم الاتجاه الإسلامي الذي أصبح في ما بعد حركة لنهضة، مئات البيانات التي تحتج على القمع زمنيْ بورقيبية وبن علي.



لكنك، بالتأكيد ستجد في حلوق هؤلاء مرارة الخيبة لفشلهم في أول اختبار يثبت لمن شككوا طويلا في قناعتهم بالديمقراطية والذين قالوا لجماعة النهضة، زمن بورقيبة وبن علي وبعدهما، إن الفوز ديمقراطيا وعبر صناديق الاقتراع لا يعني أبدا أن تكون ديمقراطيا، فالديمقراطية منظومة رؤى وثقافة وليست مجموعة شعارات أو تمنيات.



المؤشرات الأولى لسلوك حركة النهضة التي اعتلت السلطة منذ أشهر في تونس تقول إن دولة الأيديولوجيا ستنتهي ضرورة إلى دولة قمع مثلما حدث في التجارب الاشتراكية وفي ثورة إيران، فحين تمارس السياسة وأنت مقتنع بأنك تمتلك الحقيقة وأن خصمك بالضرورة مخطئ (حتى لا نستعمل ترسانة التكفير والتخوين والوسم بالعمالة) يصبح التقييم صعبا.



فأنت لا تخطئ ولا تفشل ولا تحيد عن طريق الثورة ومبادئها، وإنما غيرك منْ لا يرى ولا يفهم، أو هو منْ يتآمر ضدك، ليفشل التجربة الطاهرة النقية التي تعبّر عن الله، وتكفي إطلالة هنا على ما يكتبه أنصار حركة النهضة والمجموعات المتعاطفة معها في الفيس بوك لتكتشف أن النهضة ليست حزبا سياسيا مدنيا مثلما يقول قانونها الأساسي وإنما هي صوت السماء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.



ليس جديدا أن نصل إلى نتيجة تؤبّن دولة الأيديولوجيا، لكن الجديد هو أن نصل إلى نتيجة تشكك في المصادرة التي تريد المصالحة بين الإسلام والديمقراطية، ولأن الإسلام إسلامات ومذاهب وقراءات وتأويلات، فليست مهمتنا نفي الديمقراطية عنه أو التقليل من شأن الديمقراطية قياسا إلى مقاربته، لكن ما يهمنا هو التساؤل حول ديمقراطية حزب إسلامي يحاول إقناع فئات محلية وخارجية بأنه ديمقراطي ومدني فإذا به يبني "الدولة الديمقراطية" الوليدة بالهراوات والغاز المسيل للدموع في أيامه الأولى بالسلطة.



ومن المهم التأكيد هنا أن النهضة استجابت سريعا لضغط الخصوم الذين شتتوا اهتمامها وأغرقوها في قضايا كثيرة وأفقدوها أعصابها فانخرطت في المواجهة من موقف الضعيف الفاقد للتجربة وسعة الصدر، وكان العنف ضد احتجاجات المعطلين عن العمل السبت (7 ابريل) ثم مسيرة التاسع من ابريل الاثنين علامة فارقة على أنها تتصرف كمجموعة حزبية يائسة وليس كحكومة ثورة تريد أن تؤسس لما هو دائم.



وليس مستبعدا أن يؤدي هذا العنف إلى انفراط جزء من التحالف الهش الذي بنته النهضة، ومؤشرات ذلك في تصريحات القيادي بحزب التكتل محمد بنور التي دعا فيها إلى فتح تحقيق حول ما جرى وخاصة حول المليشيات المدنية التي مارست العنف على المتظاهرين جنبا إلى جنب مع قوات الأمن باللباس الرسمي..



وإذا كانت الصورة في ظاهرها تعكس هشاشة النهضة وحكومتها في مواجهة الواقع، فهي تعكس، أيضا، قصورا في تعاطي المعارضات بمختلف مشاربها مع قضية الديمقراطية والحفاظ على الثورة.



فأن تدفع حكومة "منتخبة" إلى حافة الهاوية بكل الطرق يعني ببساطة أنك فكرت فقط في إرباك خصمك وتسجيل النقاط لحسابك الخاص في الانتخابات القادمة، لكنك لم تفكر في التجربة الديمقراطية ومآلاتها في محيط عربي ضعيف الصلة بالتعدد الحزبي وبالمؤسسات المنتخبة.



لا شك أن خصمك سيعمل على إرباكك بكل الوسائل لو فزت في الانتخابات القادمة وتجدد اللعبة المسلية معك ومعه، لكن الضحية في المشهد هي التجربة الديمقراطية التي ستفرغ من مضمونها وتصبح فقط عنوانا لمن يفوز في الانتخابات سواء بتوظيف المال السياسي أو الدين أو العشائرية والمناطقية.



بدا واضحا للعيان بعد ثلاثة أشهر من التجربة الديمقراطية الفتية في تونس أن الأحزاب تفكر فقط في المكاسب المباشرة وأن مستقبل التجربة ومنطق التراكم وبناء وفاق وطني يقوم على تنازلات مشتركة لإنجاحها مسألة لا تعنيها إلا من باب الاستهلاك الإعلامي والمزايدة السياسية.



الوفاق الوطني كان سيساعد مختلف الأحزاب على عملية التدرب على السلوك الديمقراطي بما يعنيه من ثنائية التجربة والخطأ في أجواء من الهدوء، والأهم أنه يوسع دائرة المشترك الوطني ويحول دون التهديدات التي تمت في المدة الأخيرة للحريات العامة والخاصة وإثارة النقاش حول مكاسب قانونية ومدنية تضع تونس في مرتبة متقدمة عربيا.



إن العنف الذي مارسته قوات الأمن مساء الاثنين ضد نشطاء سياسيين وحقوقيين، ومتظاهرين مطالبين بالحق في العمل، ومتخوفين على انحراف الثورة بعودة المحسوبية واحتكار الحزب الحاكم للإدارة، هو جرس إنذار لمختلف ألوان الطيف السياسي في تونس داخل الحكومة وخارجها بأن الثورة التي خطفت أنظار العالم يمكن أن تفقد بريقها وترتد على شعاراتها بيسر إذا استمرت حالة الاستقطاب الثنائية ومنطق تصفية الحساب السياسي.



وهناك مؤشرات على أن الحل ممكن من خلال عمليات التوحيد التي تتم بين أحزاب الوسط ذات الخلفيات الليبرالية واليسارية حول قواسم مشتركة، وهي عمليات يمكن أن تتوسع إذا تخلت الأحزاب (وغالبيتها بأحجام صغيرة) عن عقلية الزعامة والمحاصصة وفتحت الباب أمام مجموعات أخرى وشخصيات وطنية مستقلة.



وقيمة عمليات التوحيد لا تكمن فقط في توسيع حجم جبهة الوسط لتنافس النهضة في انتخابات قادمة وإنما وأساسا لأنها تجمّع شرائح مجتمعية حول مواقف وقضايا مصيرية وتدير حولها حوارا واسعا حتى يكون الانتخاب في المحطات القادمة على البرامج والمشاريع القابلة للتحقق وليس حول الشعارات أو الهوية والدين.



فهل تتدارك الثورة التونسية نفسها عبر خلق ميزان قوى جديد يؤسس لوفاق واسع ويحقق الحرية والكرامة، أم يظل المشهد قابلا للاشتعال؟


كاتب وإعلامي تونسي



الاثنين، 17 يناير 2011

أيها التونسيون احموا انتفاضتكم وحكموا صوت العقل

مختار الدبابي*

أثبت الشعب التونسي أنه يحب الحياة، دون أن تقف هذه الحياة عند الخبز والماء والوظيفة، ولذلك خرج بالآلاف إلى الشوارع باحثا عن نقلة نوعية في واقع البلاد تضمن له الحق في العمل والحرية؛ الحرية الشخصية وحرية الرأي والإعلام والتعددية السياسية ودفاعا عن النزاهة في مواجهة الفساد والمحسوبية.
هناك تفاعل كبير وواسع في مختلف الأقطار والعواصم بما تحقق من جرأة وصمود وقوة لهذا الشعب الذي يعيش الأيام الأخيرة على وقع الحلم والأمل.
ولأن نشوة الفرح لا ينبغي أن تمتد زمنا طويلا، فإن التونسيين مطالبون بأن يفكروا في البناء والمحافظة على البلاد وإعادة الحياة إلى الحركة التجارية والاقتصادية وتفعيل الإدارة لأجل أن تحمي مصالح الناس والتنبه سريعا إلى أن حالة الفراغ السياسي والإداري والأمني قد تهدم الكثير من مكاسب الشعب ومواطن العمل الحاصلة حاليا.
وهناك من التونسيين من يطالب بإعلان سريع لعودة الطلاب إلى مدارسهم وجامعاتهم وفتح أبواب الوزارات والبلديات ومختلف المؤسسات الخدمية لأن غيابها يهدد بسقوط الدولة وتلاشيها ويشرّع للفوضى بدل أن يقطع الطريق عليها.
وهناك تخوفات واسعة من أن تواصل الفراغ قد يؤدي إلى افتقاد السلع التموينية مثلما تشي به الطوابير على الخبز والدقيق، وهذا الفراغ مؤشر سيء على توسع البطالة وافتقاد آلاف الوظائف الجديدة من بعض القطاعات الحساسة.
فالسياحة التي هي مورد رزق مئات الآلاف من المواطنين مهددة بشكل جلي في ظل مخاوف السياح الأجانب والشركات المنظمة للرحلات السياحية من تطورات الوضع الأمني وغموض الأفق السياسي في البلاد، بالإضافة إلى الشركات الأجنبية التي تستثمر بتونس وتشغّل عمالة كثيرة، وإذا استمر العنف واتسعت دائرة الفوضى فإنها قد تبدأ في مراجعة وضعها.
كما أن دول الجوار التي كانت تونس عنوانا للأمن والاستقرار بالنسبة إلى مواطنيها، يذهبون إليها للسياحة والتجارة والتمتع بالخدمات الصحية المتطورة، هذه الدول لا شك أنها ستراقب ما يجري في تونس بقلق، وهو ما عبّر عنه القائد الليبي معمر القذافي في كلمة وجهها مساء السبت إلى الشعب التونسي.
ويحتاج هؤلاء جميعا إلى طمأنة من الشارع ومن المعارضة ومن الحكومة الانتقالية بأن تونس ستواصل انفتاحها على الخارج والإيفاء بالتزاماتها وعلاقاتها إقليميا ودوليا، ولا شك أن أفضل طمأنة لهؤلاء أن تدافع الطبقة السياسية الجديدة في تونس عن خطاب الاعتدال والانتقال المرحلي الهادئ نحو ديمقراطية المؤسسات.
يضاف إلى هذا أمر مهم جدا، وهو الرهان على الكفاءات المختصة وتسليمها مهام التصحيح والتطوير سواء أكان ذلك في الحكومة أو في بقية المؤسسات المرتبطة بالوزارات، وهذا يعني أن يتم توزيع المسؤوليات وفق الحاجة الوطنية وليس في صيغة المحاصصة الحزبية، وفي هذا السياق يتخوف الكثير من التونسيين أن تعود آفة المحسوبية التي طردوها بالمظاهرات العارمة من بوابة الأحزاب والحركات السياسية التي ستكون طرفا في الحكومة الانتقالية أو في الحكومة التي تتشكل في الأشهر الأخيرة.
وإننا ندعو الله أن تؤول الأوضاع في تونس إلى الهدوء وأن يقطف التونسيون ثمرات نضالهم بشكل سلمي وأن يكون الحوار طريقهم الوحيد إلى البناء، ونود هنا أن نوجه نداء إلى الدول العربية المختلفة وإلى الجامعة العربية كي يدعموا تونس في هذه اللحظة التاريخية المهمة ويعينوا أهلها على إعادة الاستقرار وعودة مختلف مؤسسات الدولة إلى سالف نشاطها.
يكفي العرب سلبية وفرجة، فإذا لم تؤازر الأمة التونسيين في الوصول إلى الاستقرار وتخلت عن أمانيهم في الحرية ومحاربة الفساد، فإنها تضعهم أمام المجهول وتفسح الطريق لمختلف التنظيمات الباحثة عن توتير الوضع الأمني في هذا البلد الذي لا يمكن أن يعيش دون استقرار واعتدال، فهما عملته الوحيدة إلى الخارج وبوابته إلى التنمية.
سلبية العرب تجاه تونس قد تفتح الباب لـ"قاعدة المغرب الإسلامي" كي تتسرب إلى البلد وتمارس الخطف والقتل والتفجير العبثي وتدفع البلاد إلى حرب أهلية، وستكون النتائج وخيمة ليس فقط على تونس بل على محيطها كله.
ولهذا، فإننا ندعو الجامعة العربية إلى أن تتجاوز مرحلة المراقبة والمتابعة من بعيد وأن تدخل على الخط لمساعدة التونسيين على إعادة بناء مؤسساتهم ونزع الخوف من الصدور..
وفي الأخير نوجه نداء إلى التونسيين جميعا من مختلف الأحزاب والحركات: احموا انتفاضتكم وحكموا العقل كي تصلوا بها إلى بر الأمان، واحذروا الانتقام والترويع فهما بوابة النهاية لأي حلم مهما دفعتم لأجله من تضحيات.

*افتتاحية العرب 17 – 1 - 2011

الأحد، 26 ديسمبر 2010

مصر تنهض بمهامّ التطبيع مع المشاريع الأمريكية

مختار الدبابي*

لم تكن زيارة أبو الغيط "المفاجئة" إلى بغداد للقاء مسؤولي حكومة المالكي مفاجئة لمتتبعي حركة السياسة المصرية في السنوات الأخيرة، فمصر الرئيس حسني مبارك اختارت أن تكون العرّاب الرئيسي الذي يتولى تعريب المشاريع الأمريكية، أي يجعلها مطلبا عربيا تتبارى الأنظمة لتنفيذها وإنجاحها وكأنها مشاريع تخدم الأمة وتراعي مصالحها الراهنة والاستراتيجية.

والتطبيع المصري مع حكومة الاحتلال الخامسة في العراق لم يكن الخطوة الوحيدة التي خطاها النظام المصري تجاه العراق، فمصر كانت من أول الدول التي بادرت إلى كسر الحصار الدبلوماسي عن الحكومة التي شكلتها الأطراف المتحالفة مع الاحتلال وأرسلت سفيرها إيهاب الشريف الذي اغتيل بعد ذلك واضطر مختلف الأقطار إلى مراجعة انفتاحها الدبلوماسي على العراق في ظل الاحتلال.

بعد ذلك احتضنت القاهرة مؤتمرا لـ"المصالحة" حضرته أطراف طائفية كثيرة وتم استدراج أطراف أخرى نأت بنفسها عن العملية السياسية، وكانت الغاية توسيع حزام "الشرعية" الطائفية من حول الاحتلال، بالإضافة إلى جر "الدول المانحة" وخاصة دول الخليج والاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في العراق على أمل تحقيق سلام يجعل الاحتلال أمرا عاديا بل ويجعل منه حكما بين مختلف ألوان الطيف السياسي المذهبي والطائفي، على أن تكون الاستثمارات الكبيرة رشوة للعراقيين كي يقبلوا بالأمر الواقع مقابل توفير الوظائف.

لكن كل تلك الأحلام ذهبت مهب الريح خاصة مع موجة الفساد الواسعة التي ضربت العراق تحت الاحتلال وعمليات النهب المنظمة التي تتولاها إلى الآن المجموعات الطائفية المرتهنة للاحتلال من جهة ولإيران من جهة أخرى.

كما أن مصر قادت صحبة السعودية حملة مذهبية واسعة لشيطنة إيران والتركيز على دورها في العراق، وجاءت هذه الحملة بعد أن شعرت واشنطن أن طهران تتحكم في العراق عن طريق أطراف مهمة في الحكومة التي توهم الاحتلال الأمريكي طويلا أنها صنيعته وتابعة له.

وكان لا بد من حرب إعلامية واسعة قادتها القاهرة والرياض وعواصم أخرى صغيرة واستولدت لها فضائيات تخصصت في الحرب على الشيعة ومعتقداتهم وتكفيرهم، ومن ثمة تكفير الحكومة القائمة في طهران، ولما قررت واشنطن أن توقف حملتها على طهران اختفت تلك الفضائيات سريعا.

إن التطبيع الدبلوماسي المصري الجديد سيكون ولا شك مقدمة لتطبيع عربي أوسع مع "العراق الجديد" والغاية هي اختراق الهيمنة الإيرانية على العراق خاصة على وزارات السيادة والمؤسسات التي لها علاقة بالأمن والنفط، وذلك من خلال الاستجابة لحاجيات الحكومة الراهنة في مهمة بناء "العراق الجديد"، وهي حاجيات كثيرة وواسعة بعد أن هدم الاحتلال والمليشيات كل شيء في بلد كان مثالا عربيا على التطوير والتحديث.

وقد عرض أبو الغيط في لقاء له مع هوشيار زيباري أن تنهض "مصر بخبرتها وتجربتها الغنية" بمهمة "بناء القدرات العراقية للوزارت والمؤسسات"، وواضح أن الوزير المصري الذي افتتح قنصلية لبلاده في أربيل، كاعتراف رمزي بشرعية الدعوات الكردية للانفصال وتكوين "دولة كردستان" مثلما "تفهمت" جهود الانفصال في السودان، أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يعيد مئات آلاف المصريين للعمل بالعراق وينقذ النظام المصري من أزمته الخانقة ومن ناحية ثانية يؤدي واجب الولاء والطاعة للإدارة الأمريكية التي كلفت بلاده بتسهيل جهود التفتيت والتشطير من ناحية ومحاصرة قوى الممانعة والمقاومة في الأمة.

وفي ظل استمرار المساعدات الأمريكية المشروطة، وصمت واشنطن على الديمقراطية المفرغة التي تتبناها القاهرة رغم الاحتجاجات الواسعة والخروقات القانونية الكثيرة، والرضا الأمريكي الخفي على حالة الفساد الواسعة، فإن مصر تواصل النهوض بدورها بحماس وجدية لا مثيل لهما تعكسهما رمزية القتل اليومي الذي يتولاه الأمن المصري ضد الأفارقة الذين يحاولون التسلل إلى إسرائيل.

ودلالات هذا السلوك أن مصر لم يعد يعنيها كثيرا أن تكون الدولة المحورية التي تنهض بمهمة القيادة والسبق السياسي والاقتصادي في الأمة، وهي الآن إنما تتحرك بعقلية قطرية صرف، بل ومن مصلحة النظام الذي يريد أن يحافظ على وجوده ومكاسبه في ظل التوازنات الدولية القائمة، وهي توازنات تخدم أولا وأخيرا المصلحة الأمريكية.

وفي ظل هذه السياسة نفهم سر الإصرار المصري على محاصرة قطاع غزة حصارا تاما لا يقبل الاختراق أو التنفيس، والانحياز المكشوف ضد حزب الله ودوره في لبنان كقوة مقاومة يمكن أن تزعج إسرائيل أو تهدد أمن "شمال إسرائيل".. وهي مهام حراسة يبدو أن مصر صارت تتشرف بها وتناضل للحفاظ عليها.

* نص افتتاحية صحيفة "العرب" (18 - 12 - 2010)

من أغرق السودان: «الإنقاذ» أم التآمر الخارجي؟

مختار الدبابي

دأبنا على ربط أزماتنا بالمؤامرة الخارجية من أجل استمرار الواقع كما هو، واحتفاظ القوى المستفيدة من الأزمات بالمزايا القائمة. لا أحد يُنكر الدور الفاعل الذي يلعبه التدخل الخارجي في تثبيت حالة التخلف والاستبداد ودفع المنطقة ككل نحو التفتيت وتكوين كانتونات جديدة على أنقاض الدولة القطرية التابعة التي يبدو أنها لم تعُد تفي بالغرض أمريكيا، لكن التدخل الخارجي لا يمتلك الفاعلية القصوى إلا بتحقق شروط موضوعية داخلية تمثل أرضية مثلى له.

وفي الملف السوداني، مثلا، تتحقق الشروط الذاتية/ الموضوعية التي سمحت للقوى الخارجية بالتدخل في مختلف الملفات السودانية وانتهت أخيرا إلى فرض التقسيم عبر الاستفتاء الذي هو في الظاهر عملية ديمقراطية حرة، لكنه في العمق دليل على غياب الديمقراطية وارتفاع صوت السلاح على حساب صوت المؤسسة المدنية المنتخبة.

الكثير من ديمقراطيات الأنظمة العربية، وكتابات المثقّفين تحت الطلب، تحصر الممارسة الديمقراطية في جلب الناس إلى صناديق الاقتراع وفي الإعلان عن النسب المرتفعة كدليل على المشاركة الشعبية؛ وفي الحقيقة فإن هذه "الديمقراطية" لا تعدو أن تكون مسرحية للتضليل وتثبيت سلطة الأحزاب الحاكمة.

السودان نموذج عن هذه الديمقراطية المضللة التي أعطت الحكومات المتعاقبة والرؤساء الذين تداولوا على السلطة "بالانقلاب ثم أكسبوا أنفسهم "الشرعية" الديمقراطية لاحقا" صلاحيات الاستمرار في التعاطي الخاطئ مع الأزمات السودانية المختلفة.

أزمة السودان الكبرى أن حكوماته ورؤساءه فشلوا جميعا في فهم طبيعة هذا الكيان الواسع والمتعدد دينيا وعرقيا، وحكموا البلاد دائما كشماليين وليس كسودانيين، وفرضوا اللغة العربية و"الشريعة" "بما هي عقاب وأداة أخلاقية لتثبيت السلطة ليس إلا"، وخلقوا بالتالي الأرضية الشعورية الحقيقية التي غذت الرغبة في الانفصال لدى أبناء الجنوب ولدى مختلف الأقاليم المرشحة للانفصال.

وبالنتيجة، فإن السوداني الذي يشعر أن اللغة العربية والشريعة "ومن ورائهما الانتماء القومي، أو الإسلامي" أدوات لتثبيت وضعه في الهامش بمنعه من الوظيفة ومنع المنطقة التي ينتمي إليها من المشاريع التنموية والخدمات الأساسية، خاصة حين تكون غنية بالنفط أو المعادن وتوظف السلطة في الشمال عائدات هذه المعادن في شراء السلاح الذي تجلد به أهلها بدل أن تحارب به الفقر والجوع والأمية.

وواضح هنا أن السلطة الشمالية "منذ الاستقلال" لم تتعامل مع مختلف ألوان الطيف الديني والعرقي في السودان وفق قيمة المواطنة ولم تؤسس لقيمة الانتماء الوطني في قلوب الناس، وإنما قسمت البلاد من حيث لا تدري "وربما تدري وتمارس الأمر عن قصد" إلى أوطان كامنة في الصدور وحين تحين اللحظة تُعبّر عن نفسها ولا تجد ضيرا في أن تتعاون مع الشيطان لتحققها.

وهنا، لا يبدو الأمر ذكاء أمريكيا ولا إسرائيليا في دفع الجنوب نحو الانفصال واللعب على حالة الإحساس بالضيم والدونية لدى أهله في "السودان الموحّد"، بل إنهما استثمرا أخطاء جماعة "الإنقاذ" التي أغرقت السودان بدل أن تُنقذه..
ولنا عودة..

صحيفة العرب -27-12-2010