مختار الدبابي
جاء الموقف الإماراتي قويا وحاسما من الزيارة الاستفزازية التي أجراها أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى، وهذا الحسم ليس فقط نابعا من القناعة بالحق في السيادة على الجزر التي تحتلها إيران وإنما هو، أيضا، وليد قراءة دقيقة للنوايا الإيرانية التي تتخفى وراء هذه الزيارة.
فالصراع بين الإمارات وإيران حول الجزر ليس جديدا والاستفزازات الإيرانية تتكرر بين فترة وأخرى، لكن زيارة نجاد أثارت الحنق الإماراتي لأنها تتنزل في سياق سياسة عامة تحاول تصدير الأزمة عبر افتعال مشاكل هامشية، وليس خافيا على احد أن إيران تعيش ظروفا داخلية صعبة خاصة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بفعل العقوبات المفروضة عليها من الدول الغربية.
وهي عقوبات تهدد بأزمة خانقة في المواد التموينية والطبية، على وجه الخصوص، إضافة إلى تدني قيمة العملة المحلية ما يخلق أرضية خصبة للتضخم وارتفاع جنوني للأسعار.
يضاف إلى هذا حالة التململ السياسي والمذهبي والديني نتيجة القبضة الأمنية التي تقمع حرية الفكر وتراقب الانترنت وتزج بالخصوم في السجون، وهذا ما يفسر تجدد المظاهرات الاحتجاجية وتحديها للقمع الأمني، والمفارق، هنا، أن جزءا هاما من هؤلاء المحتجين هم أبناء قيادات فاعلة في ثورة 1979 ومن الجيل الذي فتح عينيه على شعاراتها ووعودها واكتوى بنار فشلها.
ولا شك أن العقوبات الغربية جعلت القيادة الإيرانية تتصرف تصرف اليائس الذي لا يدري ما يفعل ويحاول أن يلهي شعبه بقضايا خارجية عسى أن تغيّر من صورتها المهتزة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لكن الذي لا يدركه نجاد، أو هو يكابر ويتعامى عنه، أن الإيرانيين ملوا من الشعارات التي تلوح بمواجهة الامبريالية والاستكبار العالمي وتحرير القدس ونصرة آل البيت.. لقد صارت عيونهم مشدودة إلى الخبز ويبحثون عمّن يقاتل الفقر والبطالة لا من يقاتل الجيران.
لقد حاول نجاد أن يخلق محورا هامشيا يلهي الإيرانيين ويخفف من نقد خصومه لسياسته بالداخل والخارج خاصة أن إيران أصبحت على مرمى الصواريخ الغربية لعدم قدرتها على الحوار والمناورة في العلاقة بملفها النووي وفي طمأنة جيرانها.
إن الغرور "الثوري" الذي يتعامل به نجاد مع مطالب المجتمع الدولي ومع مخاوف محيطه العربي والإسلامي من هرولة إيران إلى التسلح التقليدي والنووي جلب لها مشاكل كثيرة وآخرها فكرة الدرع الصاروخية التي تحمي الخليجيين من شطحات نجاد ومزايدات أركان السلطة الإيرانية خاصة ما تعلق بالتلويح بإغلاق مضيق هرمز الذي يعتبر بمثابة إعلان حرب مفتوحة على كل المستفيدين من نفط الخليج.
لقد كانت زيارة نجاد رسالة إلى الخليجيين وإلى الدول التي يهمها أمن الخليج وحماية خطوط النفط، وهي دول كثيرة ونافذة، قبل أن تكون رسالة إلى الإمارات، وتعكس الرسالة هروبا إلى الأمام ومحاولة للتصرف بيأس في عملية أشبه ما تكون بالانتحار.
فما معنى أن تلوح القيادة الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، لا شك أنها واعية تماما بأنها تستنسخ تجربة صدام حسين في غزو الكويت وما ترتب عنها من تدخل قوى دولية في الخليج وعسكرته وتطور في ما بعد إلى حصار دام سنوات طويلة ثم انتهى إلى احتلال العراق وخلق حالة جيوسياسية جديدة بالمنطقة لا شك أن إيران أحد المتضررين منها حتى وإنْ تحالفت للإطاحة بصدام وإضعاف العراق.
وإن القراءة الاستشرافية الهادئة تقول إن إيران تقدم نفسها هدية من ذهب للقوى العالمية الكبرى وتسهّل عليهم خطة ضربها وتفتيتها وتعطيهم المبررات الأمنية والسياسية والأخلاقية في ذلك، فضلا عن استعداء جيرانها ودفعهم دفعا لأن يتخوفوا منها وألا يكونوا في صفها.
وفي مقابل الغرور الإيراني ومنطق فرض الأمر الواقع، مثلما يفعل الاستعماريون، فإن الإمارات تعاملت مع قضية جزرها المحتلة بأسلوب هادئ ينم عن خبرة دبلوماسية وعقلانية وبعد نظر، فقد دعت طهران إلى الحوار الثنائي على قاعدة عودة الحق لأصحابه، كما تبنت خيار اللجوء إلى التحكيم الدولي إذا فشل الحوار المتكافئ.
وكبادرة حسن نية على جدية الرهان على خيار الحوار، فحين اتفقت الإمارات وإيران على التهدئة حول قضية الجزر ووقف البيانات، التزمت الإمارات وسحبت الإشارة إلى الجزر من قرارات اجتماعات مجلس التعاون الخليجي واجتماعات جامعة الدول العربية، مثلما جاء في تصريحات لوزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد.
وواضح أن القيادة الإماراتية تريد أن تجر إيران إلى ساحة معقدة وصعبة على من اعتاد المزايدة بالشعارات والتلويح بالمواجهة، فساحة التحكيم الدولي تعني الاحتكام إلى القوانين والمواثيق الدولية وتقديم الحج والبراهين التاريخية وهذا ما لا تمتلكه إيران وتتهرب منه مثلما تتهرب من التفاوض حول محاولات امتلاكها السلاح النووي، "وإذا أثبتت إيران بالوثائق أن الجزر لها فلتأخذها"، كما قال أستاذ العلوم السياسية الإماراتي الدكتور عبدالله عبدالخالق.
ولا بد من الإشارة إلى أن نزوع طهران إلى التصعيد في قضية الجزر ومحاولة توطين إيرانيين فيها لتغيير الخارطة السكانية لأهلها الأصليين، هما رسالة تتجاوز الإمارات والخليج إلى بقية العرب ليفهموا أن الحياد البارد تجاه إيران لن يفيد أحدا.
فهذه دولة تحلم بأن تكون امبراطورية تصدّر ثورتها ليس فقط باتجاه الكويت والسعودية والبحرين واليمن ولبنان حيث توجد مجموعات للشيعة العرب، وإنما نحو مختلف أقطار العرب سواء عبر استقطاب بعض المجموعات السنية المتشددة وإغرائها بالتمويل أو عبر خلق مجموعات شيعية (مثلما يحصل في تونس والجزائر) والرهان عليها في الحصول على موقع قدم.
وبالتأكيد سيكتشف الشيعة العرب يوما أن إيران لم تكن راعيا ولا سندا لهم وأنها وظفتهم في لعبة أكبر منهم، هي لعبة استعادة المجد القومي لبلاد فارس بتوظيف الخطاب الثورة الراديكالي تارة أو الخطاب الطائفي الموغل في التشدد والانغلاق.
وختاما؛ يجب أن يردد العرب ما ردده وزير الخارجية الإماراتي منذ يومين في التعبير عن نفاد الصبر من السلوك السياسي الإيراني، الذي لم يفد معه الود ولا التمدن، حين قال: "لا نستطيع أن نترك الأمر إلى الأبد."
مختار الدبابي
كاتب وإعلامي تونسي
جاء الموقف الإماراتي قويا وحاسما من الزيارة الاستفزازية التي أجراها أحمدي نجاد إلى جزيرة أبو موسى، وهذا الحسم ليس فقط نابعا من القناعة بالحق في السيادة على الجزر التي تحتلها إيران وإنما هو، أيضا، وليد قراءة دقيقة للنوايا الإيرانية التي تتخفى وراء هذه الزيارة.
فالصراع بين الإمارات وإيران حول الجزر ليس جديدا والاستفزازات الإيرانية تتكرر بين فترة وأخرى، لكن زيارة نجاد أثارت الحنق الإماراتي لأنها تتنزل في سياق سياسة عامة تحاول تصدير الأزمة عبر افتعال مشاكل هامشية، وليس خافيا على احد أن إيران تعيش ظروفا داخلية صعبة خاصة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بفعل العقوبات المفروضة عليها من الدول الغربية.
وهي عقوبات تهدد بأزمة خانقة في المواد التموينية والطبية، على وجه الخصوص، إضافة إلى تدني قيمة العملة المحلية ما يخلق أرضية خصبة للتضخم وارتفاع جنوني للأسعار.
يضاف إلى هذا حالة التململ السياسي والمذهبي والديني نتيجة القبضة الأمنية التي تقمع حرية الفكر وتراقب الانترنت وتزج بالخصوم في السجون، وهذا ما يفسر تجدد المظاهرات الاحتجاجية وتحديها للقمع الأمني، والمفارق، هنا، أن جزءا هاما من هؤلاء المحتجين هم أبناء قيادات فاعلة في ثورة 1979 ومن الجيل الذي فتح عينيه على شعاراتها ووعودها واكتوى بنار فشلها.
ولا شك أن العقوبات الغربية جعلت القيادة الإيرانية تتصرف تصرف اليائس الذي لا يدري ما يفعل ويحاول أن يلهي شعبه بقضايا خارجية عسى أن تغيّر من صورتها المهتزة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لكن الذي لا يدركه نجاد، أو هو يكابر ويتعامى عنه، أن الإيرانيين ملوا من الشعارات التي تلوح بمواجهة الامبريالية والاستكبار العالمي وتحرير القدس ونصرة آل البيت.. لقد صارت عيونهم مشدودة إلى الخبز ويبحثون عمّن يقاتل الفقر والبطالة لا من يقاتل الجيران.
لقد حاول نجاد أن يخلق محورا هامشيا يلهي الإيرانيين ويخفف من نقد خصومه لسياسته بالداخل والخارج خاصة أن إيران أصبحت على مرمى الصواريخ الغربية لعدم قدرتها على الحوار والمناورة في العلاقة بملفها النووي وفي طمأنة جيرانها.
إن الغرور "الثوري" الذي يتعامل به نجاد مع مطالب المجتمع الدولي ومع مخاوف محيطه العربي والإسلامي من هرولة إيران إلى التسلح التقليدي والنووي جلب لها مشاكل كثيرة وآخرها فكرة الدرع الصاروخية التي تحمي الخليجيين من شطحات نجاد ومزايدات أركان السلطة الإيرانية خاصة ما تعلق بالتلويح بإغلاق مضيق هرمز الذي يعتبر بمثابة إعلان حرب مفتوحة على كل المستفيدين من نفط الخليج.
لقد كانت زيارة نجاد رسالة إلى الخليجيين وإلى الدول التي يهمها أمن الخليج وحماية خطوط النفط، وهي دول كثيرة ونافذة، قبل أن تكون رسالة إلى الإمارات، وتعكس الرسالة هروبا إلى الأمام ومحاولة للتصرف بيأس في عملية أشبه ما تكون بالانتحار.
فما معنى أن تلوح القيادة الإيرانية بإغلاق مضيق هرمز، لا شك أنها واعية تماما بأنها تستنسخ تجربة صدام حسين في غزو الكويت وما ترتب عنها من تدخل قوى دولية في الخليج وعسكرته وتطور في ما بعد إلى حصار دام سنوات طويلة ثم انتهى إلى احتلال العراق وخلق حالة جيوسياسية جديدة بالمنطقة لا شك أن إيران أحد المتضررين منها حتى وإنْ تحالفت للإطاحة بصدام وإضعاف العراق.
وإن القراءة الاستشرافية الهادئة تقول إن إيران تقدم نفسها هدية من ذهب للقوى العالمية الكبرى وتسهّل عليهم خطة ضربها وتفتيتها وتعطيهم المبررات الأمنية والسياسية والأخلاقية في ذلك، فضلا عن استعداء جيرانها ودفعهم دفعا لأن يتخوفوا منها وألا يكونوا في صفها.
وفي مقابل الغرور الإيراني ومنطق فرض الأمر الواقع، مثلما يفعل الاستعماريون، فإن الإمارات تعاملت مع قضية جزرها المحتلة بأسلوب هادئ ينم عن خبرة دبلوماسية وعقلانية وبعد نظر، فقد دعت طهران إلى الحوار الثنائي على قاعدة عودة الحق لأصحابه، كما تبنت خيار اللجوء إلى التحكيم الدولي إذا فشل الحوار المتكافئ.
وكبادرة حسن نية على جدية الرهان على خيار الحوار، فحين اتفقت الإمارات وإيران على التهدئة حول قضية الجزر ووقف البيانات، التزمت الإمارات وسحبت الإشارة إلى الجزر من قرارات اجتماعات مجلس التعاون الخليجي واجتماعات جامعة الدول العربية، مثلما جاء في تصريحات لوزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد.
وواضح أن القيادة الإماراتية تريد أن تجر إيران إلى ساحة معقدة وصعبة على من اعتاد المزايدة بالشعارات والتلويح بالمواجهة، فساحة التحكيم الدولي تعني الاحتكام إلى القوانين والمواثيق الدولية وتقديم الحج والبراهين التاريخية وهذا ما لا تمتلكه إيران وتتهرب منه مثلما تتهرب من التفاوض حول محاولات امتلاكها السلاح النووي، "وإذا أثبتت إيران بالوثائق أن الجزر لها فلتأخذها"، كما قال أستاذ العلوم السياسية الإماراتي الدكتور عبدالله عبدالخالق.
ولا بد من الإشارة إلى أن نزوع طهران إلى التصعيد في قضية الجزر ومحاولة توطين إيرانيين فيها لتغيير الخارطة السكانية لأهلها الأصليين، هما رسالة تتجاوز الإمارات والخليج إلى بقية العرب ليفهموا أن الحياد البارد تجاه إيران لن يفيد أحدا.
فهذه دولة تحلم بأن تكون امبراطورية تصدّر ثورتها ليس فقط باتجاه الكويت والسعودية والبحرين واليمن ولبنان حيث توجد مجموعات للشيعة العرب، وإنما نحو مختلف أقطار العرب سواء عبر استقطاب بعض المجموعات السنية المتشددة وإغرائها بالتمويل أو عبر خلق مجموعات شيعية (مثلما يحصل في تونس والجزائر) والرهان عليها في الحصول على موقع قدم.
وبالتأكيد سيكتشف الشيعة العرب يوما أن إيران لم تكن راعيا ولا سندا لهم وأنها وظفتهم في لعبة أكبر منهم، هي لعبة استعادة المجد القومي لبلاد فارس بتوظيف الخطاب الثورة الراديكالي تارة أو الخطاب الطائفي الموغل في التشدد والانغلاق.
وختاما؛ يجب أن يردد العرب ما ردده وزير الخارجية الإماراتي منذ يومين في التعبير عن نفاد الصبر من السلوك السياسي الإيراني، الذي لم يفد معه الود ولا التمدن، حين قال: "لا نستطيع أن نترك الأمر إلى الأبد."
مختار الدبابي
كاتب وإعلامي تونسي