مختار الدبابي*
لم تكن زيارة أبو الغيط "المفاجئة" إلى بغداد للقاء مسؤولي حكومة المالكي مفاجئة لمتتبعي حركة السياسة المصرية في السنوات الأخيرة، فمصر الرئيس حسني مبارك اختارت أن تكون العرّاب الرئيسي الذي يتولى تعريب المشاريع الأمريكية، أي يجعلها مطلبا عربيا تتبارى الأنظمة لتنفيذها وإنجاحها وكأنها مشاريع تخدم الأمة وتراعي مصالحها الراهنة والاستراتيجية.
والتطبيع المصري مع حكومة الاحتلال الخامسة في العراق لم يكن الخطوة الوحيدة التي خطاها النظام المصري تجاه العراق، فمصر كانت من أول الدول التي بادرت إلى كسر الحصار الدبلوماسي عن الحكومة التي شكلتها الأطراف المتحالفة مع الاحتلال وأرسلت سفيرها إيهاب الشريف الذي اغتيل بعد ذلك واضطر مختلف الأقطار إلى مراجعة انفتاحها الدبلوماسي على العراق في ظل الاحتلال.
بعد ذلك احتضنت القاهرة مؤتمرا لـ"المصالحة" حضرته أطراف طائفية كثيرة وتم استدراج أطراف أخرى نأت بنفسها عن العملية السياسية، وكانت الغاية توسيع حزام "الشرعية" الطائفية من حول الاحتلال، بالإضافة إلى جر "الدول المانحة" وخاصة دول الخليج والاتحاد الأوروبي إلى الاستثمار في العراق على أمل تحقيق سلام يجعل الاحتلال أمرا عاديا بل ويجعل منه حكما بين مختلف ألوان الطيف السياسي المذهبي والطائفي، على أن تكون الاستثمارات الكبيرة رشوة للعراقيين كي يقبلوا بالأمر الواقع مقابل توفير الوظائف.
لكن كل تلك الأحلام ذهبت مهب الريح خاصة مع موجة الفساد الواسعة التي ضربت العراق تحت الاحتلال وعمليات النهب المنظمة التي تتولاها إلى الآن المجموعات الطائفية المرتهنة للاحتلال من جهة ولإيران من جهة أخرى.
كما أن مصر قادت صحبة السعودية حملة مذهبية واسعة لشيطنة إيران والتركيز على دورها في العراق، وجاءت هذه الحملة بعد أن شعرت واشنطن أن طهران تتحكم في العراق عن طريق أطراف مهمة في الحكومة التي توهم الاحتلال الأمريكي طويلا أنها صنيعته وتابعة له.
وكان لا بد من حرب إعلامية واسعة قادتها القاهرة والرياض وعواصم أخرى صغيرة واستولدت لها فضائيات تخصصت في الحرب على الشيعة ومعتقداتهم وتكفيرهم، ومن ثمة تكفير الحكومة القائمة في طهران، ولما قررت واشنطن أن توقف حملتها على طهران اختفت تلك الفضائيات سريعا.
إن التطبيع الدبلوماسي المصري الجديد سيكون ولا شك مقدمة لتطبيع عربي أوسع مع "العراق الجديد" والغاية هي اختراق الهيمنة الإيرانية على العراق خاصة على وزارات السيادة والمؤسسات التي لها علاقة بالأمن والنفط، وذلك من خلال الاستجابة لحاجيات الحكومة الراهنة في مهمة بناء "العراق الجديد"، وهي حاجيات كثيرة وواسعة بعد أن هدم الاحتلال والمليشيات كل شيء في بلد كان مثالا عربيا على التطوير والتحديث.
وقد عرض أبو الغيط في لقاء له مع هوشيار زيباري أن تنهض "مصر بخبرتها وتجربتها الغنية" بمهمة "بناء القدرات العراقية للوزارت والمؤسسات"، وواضح أن الوزير المصري الذي افتتح قنصلية لبلاده في أربيل، كاعتراف رمزي بشرعية الدعوات الكردية للانفصال وتكوين "دولة كردستان" مثلما "تفهمت" جهود الانفصال في السودان، أراد أن يضرب عصفورين بحجر واحد، فمن ناحية يعيد مئات آلاف المصريين للعمل بالعراق وينقذ النظام المصري من أزمته الخانقة ومن ناحية ثانية يؤدي واجب الولاء والطاعة للإدارة الأمريكية التي كلفت بلاده بتسهيل جهود التفتيت والتشطير من ناحية ومحاصرة قوى الممانعة والمقاومة في الأمة.
وفي ظل استمرار المساعدات الأمريكية المشروطة، وصمت واشنطن على الديمقراطية المفرغة التي تتبناها القاهرة رغم الاحتجاجات الواسعة والخروقات القانونية الكثيرة، والرضا الأمريكي الخفي على حالة الفساد الواسعة، فإن مصر تواصل النهوض بدورها بحماس وجدية لا مثيل لهما تعكسهما رمزية القتل اليومي الذي يتولاه الأمن المصري ضد الأفارقة الذين يحاولون التسلل إلى إسرائيل.
ودلالات هذا السلوك أن مصر لم يعد يعنيها كثيرا أن تكون الدولة المحورية التي تنهض بمهمة القيادة والسبق السياسي والاقتصادي في الأمة، وهي الآن إنما تتحرك بعقلية قطرية صرف، بل ومن مصلحة النظام الذي يريد أن يحافظ على وجوده ومكاسبه في ظل التوازنات الدولية القائمة، وهي توازنات تخدم أولا وأخيرا المصلحة الأمريكية.
وفي ظل هذه السياسة نفهم سر الإصرار المصري على محاصرة قطاع غزة حصارا تاما لا يقبل الاختراق أو التنفيس، والانحياز المكشوف ضد حزب الله ودوره في لبنان كقوة مقاومة يمكن أن تزعج إسرائيل أو تهدد أمن "شمال إسرائيل".. وهي مهام حراسة يبدو أن مصر صارت تتشرف بها وتناضل للحفاظ عليها.
* نص افتتاحية صحيفة "العرب" (18 - 12 - 2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق