مختار الدبابي
دأبنا على ربط أزماتنا بالمؤامرة الخارجية من أجل استمرار الواقع كما هو، واحتفاظ القوى المستفيدة من الأزمات بالمزايا القائمة. لا أحد يُنكر الدور الفاعل الذي يلعبه التدخل الخارجي في تثبيت حالة التخلف والاستبداد ودفع المنطقة ككل نحو التفتيت وتكوين كانتونات جديدة على أنقاض الدولة القطرية التابعة التي يبدو أنها لم تعُد تفي بالغرض أمريكيا، لكن التدخل الخارجي لا يمتلك الفاعلية القصوى إلا بتحقق شروط موضوعية داخلية تمثل أرضية مثلى له.
وفي الملف السوداني، مثلا، تتحقق الشروط الذاتية/ الموضوعية التي سمحت للقوى الخارجية بالتدخل في مختلف الملفات السودانية وانتهت أخيرا إلى فرض التقسيم عبر الاستفتاء الذي هو في الظاهر عملية ديمقراطية حرة، لكنه في العمق دليل على غياب الديمقراطية وارتفاع صوت السلاح على حساب صوت المؤسسة المدنية المنتخبة.
الكثير من ديمقراطيات الأنظمة العربية، وكتابات المثقّفين تحت الطلب، تحصر الممارسة الديمقراطية في جلب الناس إلى صناديق الاقتراع وفي الإعلان عن النسب المرتفعة كدليل على المشاركة الشعبية؛ وفي الحقيقة فإن هذه "الديمقراطية" لا تعدو أن تكون مسرحية للتضليل وتثبيت سلطة الأحزاب الحاكمة.
السودان نموذج عن هذه الديمقراطية المضللة التي أعطت الحكومات المتعاقبة والرؤساء الذين تداولوا على السلطة "بالانقلاب ثم أكسبوا أنفسهم "الشرعية" الديمقراطية لاحقا" صلاحيات الاستمرار في التعاطي الخاطئ مع الأزمات السودانية المختلفة.
أزمة السودان الكبرى أن حكوماته ورؤساءه فشلوا جميعا في فهم طبيعة هذا الكيان الواسع والمتعدد دينيا وعرقيا، وحكموا البلاد دائما كشماليين وليس كسودانيين، وفرضوا اللغة العربية و"الشريعة" "بما هي عقاب وأداة أخلاقية لتثبيت السلطة ليس إلا"، وخلقوا بالتالي الأرضية الشعورية الحقيقية التي غذت الرغبة في الانفصال لدى أبناء الجنوب ولدى مختلف الأقاليم المرشحة للانفصال.
وبالنتيجة، فإن السوداني الذي يشعر أن اللغة العربية والشريعة "ومن ورائهما الانتماء القومي، أو الإسلامي" أدوات لتثبيت وضعه في الهامش بمنعه من الوظيفة ومنع المنطقة التي ينتمي إليها من المشاريع التنموية والخدمات الأساسية، خاصة حين تكون غنية بالنفط أو المعادن وتوظف السلطة في الشمال عائدات هذه المعادن في شراء السلاح الذي تجلد به أهلها بدل أن تحارب به الفقر والجوع والأمية.
وواضح هنا أن السلطة الشمالية "منذ الاستقلال" لم تتعامل مع مختلف ألوان الطيف الديني والعرقي في السودان وفق قيمة المواطنة ولم تؤسس لقيمة الانتماء الوطني في قلوب الناس، وإنما قسمت البلاد من حيث لا تدري "وربما تدري وتمارس الأمر عن قصد" إلى أوطان كامنة في الصدور وحين تحين اللحظة تُعبّر عن نفسها ولا تجد ضيرا في أن تتعاون مع الشيطان لتحققها.
وهنا، لا يبدو الأمر ذكاء أمريكيا ولا إسرائيليا في دفع الجنوب نحو الانفصال واللعب على حالة الإحساس بالضيم والدونية لدى أهله في "السودان الموحّد"، بل إنهما استثمرا أخطاء جماعة "الإنقاذ" التي أغرقت السودان بدل أن تُنقذه..
ولنا عودة..
صحيفة العرب -27-12-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق