مختار الدبابي*
أعادت عملية احتجاز الرهائن في كنيسة "سيدة النجاة" ببغداد والمجزرة الدموية التي تلت اقتحامها من قبل القوات الأمريكية والعراقية إلى الواجهة وضع مسيحيي العراق ومن ورائهم مسيحيو الشرق ككل، وهناك تركيز في وسائل الإعلام الأجنبية على أنهم مستهدفون في هذه اللحظة، ولكن لماذا؟ ومن يستهدفهم؟
ونود من البداية التأكيد على أن المسيحيين والمسلمين في الوطن العربي، ورغم ما بينهم من اختلافات دينية، عاشوا قرونا طويلة في تعايش مبني على الاحترام الديني والاعتراف بحق الآخر في العبادة والعمل والمواطنة وإن اختلفت التسميات.
وحالة العداء الإسلامي المسيحي لم تكن موجودة في فترة الاستعمار ولا في العقود الأولى لتشكل الدولة الوطنية، بل إن أسماء بارزة من المسيحيين ساهمت في تأسيس القومية العربية والتنظير لها ما يعني أن المسيحيين كانوا في قلب الجهد القومي والوطني من أجل التحرر وبناء الدولة الوطنية الحديثة، فمتى إذن صعدت إلى الواجهة قضية مسيحيي الشرق؟
الصعود الأول لهذه القضية كان إبان الحرب الأهلية في لبنان، وهي حرب دينية وطائفية في ظاهرها لكن الأحداث كشفت عن دور كبير فيها للاستعمار بوجهيه؛ القديم والجديد، ففرنسا كانت مورطة وأمريكا وإسرائيل دخلا طرفا في القضية وحاولا توظيف مجموعات مسيحية في معركة لي الذراع مع سوريا، وهذه الحرب خسر فيها المسيحيون كما خسرت بقية مكونات المجتمع اللبناني بأوجهها الطائفية المختلفة.
أما مسيحيو العراق فالجميع يشهد أنهم عاشوا طيلة عقود الدولة العراقية الحديثة وخاصة في ظل حكم البعث كمواطنين مثلهم مثل الأكراد والشيعة والسنة، وهذه التسميات والأوصاف الطائفية لم تكن موجودة أصلا في قاموس هذا البلد الذي عامل أبناءه على قدر كامل من المساواة وبعدل ونزاهة.
وما يؤكد هذا هو وجود السيد طارق عزيز في وزارة الخارجية العراقية حيث كان صوت العراق إلى الخارج والمعبر عن عدالة قضيته، وهو شخصية وطنية نموذجية وعنوان صادق على تلك المساواة..
لكن التمييز ضد مسيحيي الشرق لم يظهر إلا مع الاحتلال الأمريكي هذا الذي أطلق أيدي المليشيات الطائفية والمذهبية تنهش لحم البلد بكل مكوناته، ومثلما تعرض المسيحيون للتهجير والقتل فقد تعرض جزء من شيعة العراق إلى القتل العبثي وتمارس ضد سنة العراق أشكال كثيرة من التمييز والقهر والإذلال.
لو كان الاحتلال الأمريكي مدافعا عن المسيحيين كما يسوّق لذلك الإعلام الغربي كذبا وبهتانا لما سلّم هذا الاحتلال طارق عزيز المسيحي الوطني الشريف إلى المليشيات الطائفية الحاكمة لتمارس عليه التعذيب والإذلال وتحكم عليه بالإعدام في مسرحية قضائية ساذجة.
إن إثارة تصعيد قضية مسيحيي العراق إلى الواجهة الإعلامية الغاية منها البحث عن تعاطف الشارع الغربي مع الاحتلال، خاصة أن الامبراطورية الأمريكية سقطت سقوطا أخلاقيا مدويا وتمرغت صورتها في الوحل بعد أن اكتشف العالم، وخاصة الشارع الأمريكي والأوروبي، أن الحرب على العراق قامت على أكاذيب..
فضلا عن أن الاحتلال داس خلالها على كل المواثيق والقيم الإنسانية ومارس التعذيب في أبشع صوره وفتح العراق مشرعا أمام الفساد والنهب وحوّله من بلاد للحضارة إلى غابة يداس فيها على كل القيم النبيلة.
من المهم أن يحذر مسلمو الشرق تماما مثل مسيحييه من أن الامبراطورية الامبريالية تريد أن تُفتت الأمة إلى دويلات قزمية، وهي مثلما وظفت العداء التاريخي بين الشيعة والسنة في إثارة حرب أهلية بالعراق خلفت آلاف القتلى والجرحى والمشردين، ها هي الآن تحاول أن توظف المسيحيين في لعبتها القذرة لضمان تفتيت العراق والسودان وحتى مصر.
إن انفصال جنوب السودان عن شماله لا يمكن أن ينتهي إلى جنة بالنسبة إلى مسيحيي السودان، فأمريكا لا يعنيها من المسألة إلا أمر واحد هو تقسيم هذا البلد الذي ينهض على إمكانيات جغرافية وطبيعية هائلة إلى دويلات صغيرة لا تستطيع أن تعيش دون المظلة الأمريكية، وهو ما يجعل خيرات السودان الطبيعية والنفطية في قبضة أمريكا تفعل بها كما تشاء مثل ما تفعل الآن بخيرات الخليج العربي.
ومع الأسف، ومثلما اغتر بعض المسلمين العرب بالخطاب الأمريكي المضلل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وتآمروا معها ضد بلدانهم، فإن بعض الأطراف المسيحية العربية (المصرية على وجه الخصوص) وضعوا أنفسهم في خدمة الامبراطورية الامبريالية واهمين أنها ستتدخل لفائدتهم وتفرض لهم مراكز متقدمة في صنع القرار وفي البرلمان وفي الإدارة وغيرها.
ليس أمام أبناء الأمة مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم سوى مصير مشترك إما أن ينهضوا به معاً في سياق وحدة وطنية تقر حق الاختلاف وتنهض على مبدإ المواطنة، أو يسقطوا جميعا تحت الاستعمار في ثوبه الجديد، وهو استعمار أشد وقعا وأكثر عدوانية.
*نص افتتاحية العرب العالمية (2 - 11 - 2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق