مختار الدبابي*
موقع ويكيليكس صار حديث العالم، الجميع يتابع أخبار الوثائق أولا بأول، ويطلق التكهنات حول الوثائق القادمة ويتساءل: من ستكون الضحية القادمة التي يفضحها هذا الموقع، وقد ظهر بين عشية وضحاها وصار الموقع الأشهر والأهم والأكثر جاذبية؟ ثم من يكون صاحب الموقع وكيف حصل على هذا الكم الكبير من المعلومات الخاصة بدولة تنهض وتنام على التجسس والتنصت على مواطنيها قبل غيرهم؟
ولأننا لم نتعود أن نتعامل مع الأحداث ببراءة الأطفال كما فعل الكثير من الإعلاميين العرب الذين تعاطوا مع "تسريبات" ويكيليكس وكأنها حقائق ثابتة، فقد سكننا السؤال دائما عمّا وراء الصورة: من وضعها ومن المستفيد منها، ولم نصدق لعبة ويكيليكس ولم نغتر بالبالونات التي أطلقها وحاولنا النبش في ما وراءها وما حف بها من تضليل وتوظيف ومصالح استعمارية، ونسجل هنا مجموعة من الملاحظات:
أولا؛ تكمن قيمة الوثائق المسربة عادة في أنها تحمل أسرارا خاصة ومهمة للطرف الذي سُرقت منه، وهو هنا الخارجية الأمريكية، لكن وثائق ويكيليكس لم يرد فيها ما يضر بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وكل ما فيها هو وثائق عن عمليات التجسس والتقييمات التي تُصدرها السفارات الأمريكية في المنطقة العربية، وليس خافيا على أحد بما في ذلك الرؤساء العرب أن السفارات الأمريكية في عواصمهم تتجسس على بلدانهم وتمتلك معلومات دقيقة عن كل شيء لديهم.
ففي المجال العسكري أغلب السلاح خردة ومستورد إما من الولايات المتحدة أو من أوروبا، ويتولى "خبراء" أمريكيون إعادة تركيبه وتشغيله، ولا يخفى عليهم شيء بما في ذلك أسرار السلاح الذي يأتي من روسيا وقد أصبحت "دولة صديقة" تتحرك في الظل الأمريكي كما وصفناها في الملف الذي أعددناه منذ أسابيع في صحيفة العرب الأسبوعي.
وأكثر من ذلك، فهي تتولى تدريب القوى الأمنية وقياداتها على السلاح وتصدّر إليهم خبراتها في القمع والتعذيب "ففي أغلب عواصمنا دايتون شبيه بدايتون رام الله" خاصة بعد الخبرات الكبيرة التي امتلكتها في العراق وأفغانستان وفي حربها العلنية والسرية على الإرهاب، ومن ثمة فالمعلومات الأمنية ملقاة على قارعة الطريق بالنسبة إليها.
أما سياسيا فالسفارات الأمريكية تعرف كل شيء عن المشهد السياسي في مختلف العواصم العربية وغير العربية، وعلاقاتها "مفتوحة على الآخر" مع الشخصيات الرسمية و"المعارضة" "الراديكالية، وشبه الراديكالية، وخيال مآتة" و"المستقلة" وتعرف تفاصيل كل شيء، كما أنها على اطلاع واسع على تفاصيل الخصخصة والشخصيات المالية سواء من الحرس القديم أو من الوجوه الصاعدة المرتبطة بشكل أو بآخر بدوائر القرار السياسي في مختلف العواصم.
وبالتالي، فما جاء فيها من تسريبات لم يحقق اختراقا في الصورة المعلومة بالنسبة إلى الأنظمة التي تم استهدافها بالتسريبات ولا بالنسبة إلى مواطنيها الذين لا تزيدهم تلك التسريبات إلا اقتناعا بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون بلدا صديقا.
ثانيا؛ توهمنا تسريبات ويكيليكس "الخارقة" والمفاجئة بأن ما يحكمها هو "السبق" و"الكشف" ولا تحكمها انتقائية أو تصفية حساب، لكن تفاصيل الأخبار والنصوص التي نشرت لا نجد فيها إلا استهدافا لدائرة جغرافية وثقافية بعينها، هي المنطقة العربية زائد تركيا وإيران.
وما ذُكر عن أوروبا لم يتجاوز إطلاق نعوت تدخل في سياق المزاح تجاه بعض الشخصيات أمثال ميدفيديف وبوتين وساركوزي وبرلوسكوني "نعوت لا تساوي شيئا أمام الصور الكاريكاتورية التي تنشر لهم في وسائل إعلامهم بما في ذلك الرسمية".
أما التلويحات بالكشف عن حقائق "مثيرة" عن إسرائيل فقد انتهت إلى حديث يبرر عدوانها على غزة ويحاول توريط حركة فتح والنظام المصري من حيث معرفتهم بقرار شن الهجوم الإسرائيلي وصمتهم عليه، أي تسريب موجه ولا تحكمه صدفة أبدا، وقد وفر الموقع الفرصة لنتنياهو كي يعطي قياداتنا وزعماءنا الدروس في أسلوب التعاطي مع الشعوب وضرورة مصارحتها.
ثالثا؛ هل التسريب "البريء" و"الجريء" خاف من نشر وثائق يمكن أن تصنف تحت مظلة معاداة السامية فمارس الانتقاء، أم أن تلك الوثائق طاهرة و"نقية" من موجبات معاداة السامية كما أراد مسربوها؟
وهذا ما يؤكد أن التسريب كان موجها وهادفا ودقيقا وأن من سرّب تلك الوثائق لن يخرج عن إحدى دوائر الاستخبارات الأمريكية بغاية تحقيق أهداف بعينها.
التسريب الأول الذي ركز على العراق، ورغم بعض التهويل في الحديث عن الجرائم والوضع الإنساني فإن الغاية الأساسية منه كانت إرباك مفاوضات تشكيل الحكومة وقطع الطريق أمام المالكي ومنعه من ترؤس الحكومة الجديدة في محاولة يائسة لإضعاف النفوذ الإيراني القوي في العراق.
أما التسريب الجديد، فرسالته الرئيسية تستهدف تقديم صورة سيئة عن واقع غالبية الأنظمة العربية، وهي رسالة بالغة الدلالات والغايات، فهي من ناحية تزيد في إضعاف واقع تلك الأنظمة أمام جماهيرها، وتدفع الجماهير إلى اليأس في أي تغيير مدني هادئ تتم فيه الشراكة بين مختلف القوى السياسية بما فيها الأحزاب الحاكمة، ورهان التيئيس الأساسي هو توسيع دائرة التشدد والانغلاق باعتبارها الشرط الأول لنجاح "الفوضى الخلاقة" كأداة استراتيجية أمريكية للسيطرة على العالم.
رابعا؛ لم يكن الهدف من تسريب الوثائق كشف حالة الفساد الداخلي في أي بلد، وإنما تشكيل صورة واحدة تقريبا تقول إن غالبية الأنظمة العربية لا تعمل وفق أجندات وطنية أو قومية وإنما هي تختار بـ"حرية تامة" الاصطفاف وراء المصلحة الأمريكية وتعمل على تجسيمها عن قناعة تامة، بل تتبدى أحرص من الأمريكيين أنفسهم على تنفيذ تلك الأجندات وخاصة ما تعلق بالحرب على إيران.
ما جاء من تسريبات يقول إن الدول العربية "المؤثرة" تريد فتح مواجهة سريعة وعاجلة مع إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، وتذكرنا خطابات التحريض هذه بالأجواء التي سبقت العدوان الأول على العراق "1991" حيث تطوعت العواصم العربية "الفاعلة" إلى التحريض السري والعلني عليه وأعطت كل المبررات السياسية والأمنية والأخلاقية لإدارة بوش الأب ثم تاليا الابن لخوض عدوانيْ "1991" و"2003".
وهكذا، ومثلما تقول روح التسريبات فإن أمريكا ليست متعجلة لضرب إيران ولكن المحيط العربي هو من يريد المواجهة، فالحرب حربه وأمريكا هي "فاعلة خير" تريد حفظ الأمن وحماية أصدقائها لا أكثر!، وهو ما يوسع دائرة العداء بين شعوب المنطقة ويقطع الطريق على أي تحالف استراتيجي بينها يتصدى للهيمنة الأمريكية ويهدد وجودها العسكري في المنطقة وخاصة في الخليج.
خامسا؛ أما إسرائيل، وفق الصورة "البريئة" للتسريبات فلا تزعج أحدا وليست عدوا استراتيجيا مثلما يسوق لذلك البعض، بل هي جار لا أحد يشتكي منه حتى بينه وبين نفسه، وهي الحالة التي تفضحها الوثائق المسربة ذلك أن السفارات الأمريكية تعرف عن أمتنا وأنظمتها كل شيء.
والرسائل تحمل في ما تُخفيه دعوة للتطبيع مع إسرائيل ما دامت "مسالمة" ولا تمثل خطرا على أحد عكس إيران، ومن ثمة ليس هناك مبرر لأن تؤجّل الأنظمة العربية التعاطي معها دون "عُقد" ودون أن تنتظر انتهاء مفاوضات السلام بينها وبين سلطة فلسطينية منزوعة الريش ترضى بالفتات لكن إسرائيل ترفض أن تمنحها ولو فتات الفتات.
وشرط التطبيع، وفق ما حملته الدلالات والرسائل الخفية للعبة ويكيليكس، ألا تكون العلاقة متكافئة وألا تحتكم إلى المصلحة المشتركة أو العامة "ونعني مصلحة الشرق الأوسط الكبير الخادم للامبريالية والسوق الاستهلاكية الكبرى لمنتجاتها"، بل علاقة فوقية تمارس فيها إسرائيل التفوق العسكري والاقتصادي والقيمي "بزعم أنها دولة ديمقراطية فيما العرب غارقون في الاستبداد والتسلط وربما لهذا شجعت واشنطن الحزب الحاكم في مصر على أن يمارس كل أنواع البلطجة والتزوير"، وتأتي تصريحات نتنياهو سالفة الذكر لتكريس هذا "التفوق الأخلاقي".
سادسا؛ وفي سياق خدمة الاستراتيجية الأمريكية/ الإسرائيلية جاءت تسريبات ويكيليكس محددة للأعداء الاستراتيجيين للصهيونية العالمية، ونعني إيران أولا، وهي قوة "رغم اختلافنا معها" تقف بصبر وتعال في وجه الامبريالية "أحيانا بأسلوب ساذج تطغى عليه الشعارات والمزايدات، وأحيانا أخرى بتحد جدي ومؤثر".
أما القوة الثانية التي استهدفها "التسريب البريء" فهي تركيا، ويبدو أن اللوبي الصهيوني "الأمريكي الإسرائيلي" لم ينس المواجهة الجريئة وغير المسبوقة التي خاضها أردوغان مع بيريز في منتدى دافوس، ولهذا تحدثت التسريبات عن أن الرجل يمتلك أموالا في حسابات بنكية خاصة في سويسرا "والغاية تشويه الصورة الثورية التي رسمها لنفسه عند العرب خاصة في ملف غزة"، وانتقل انتقام "التسريبات" إلى محاولة ربط أنقرة بدعم "القاعدة" وبالمقابل دعم إسرائيل وواشنطن لحزب العمال الكردستاني، أي تصفية الحساب بالحاضر مع تركيا التي قررت أن تخرج عن الظل الأمريكي والبحث عن مصالحها شرقا.
سابعا؛ هناك سؤال يطرح هنا أمام هذه القراءة المسترابة التي نزعمها: إذا كان جوليان أسانغ مؤسس ويكيليكس "صديقا" لأمريكا وقبل بتسريب ما تريد أن تسرب لماذا تلاحقه قضائيا وتفتح عليه نار جهنم؟
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن هذه اللعبة ممكنة جدا، وللاستخبارات الأمريكية تاريخ طويل من الفبركات والمسرحيات والمناورات الاستخبارية متعددة الأشكال والأساليب والضحايا.
وسواء أكان أسانغ على علم باللعبة واشترك فيها طواعية أم تم إلقاء كل تلك الوثائق "مصادفة" أمامه ونشرها وهو يتوقع أنه حصل على سبق إعلامي لا مثيل له، فإن الآلة الإعلامية الأمريكية ستحرص على تجريمه وربما إصدار حكم قاس عليه قد يكون مدى الحياة وهي تريد أن تحوله إلى "شهيد" ومناضل شبيه بمانديلا تكون له سلطة معنوية على الناس فيتعاطفون معه "في سياق كراهية آلية/ ميكانيكية للسياسات الأمريكية" ومن ثمة يصدقونه.
أي يصدقون أن التسريبات كانت صدفة وأن جنديا عمره 23 عاما قد تولى نسخ وثائق وأسرار الخارجية الأمريكية "هكذا وكأنها وثائق مكتبة مفتوحة أمام العموم لا رقيب عليها"، ومن ثمة يصدقون أن التسريبات بريئة وتلقائية وأن أمريكا ليست قادرة على حماية وثائقها في ظل التطور التكنولوجي.
لكننا نطرح سؤالا إنكاريا أمام كل هذه البراءة: ماذا لو امتلك أسانغ وثائق تهدد النووي الأمريكي أو النووي الإسرائيلي، هل كانت واشنطن ستتعامل معه بكل هذه البراءة وسعة الصدر، أم كانت ستحاربه بكل ضراوة وقوة وربما تتم تصفيته قبل أن يفتح فاه بكلمة واحدة؟.
لو أن هذه الوثائق تستهدف مصالح واشنطن أو تدق الإسفين بينها وبين أصدقائها فإنها لم تكن لتسمح بنشرها وخبراتها الواسعة في تعذيب واختطاف وتصفية خصومها في "الحرب على الإرهاب" تقول إن هذا لا يمكن أن يحدث البتة.
ومما لاشك فيه أن التسريبات فضحت العقلية الأمريكية التي تريد أن توهم العالم بأنها سيدته الأولى وشرطيه الأوحد، وستبدأ مراجعات في أكثر من بلد عربي بشكل صامت وسري لبحث الاعتماد على الذات والتحرر من المساعدات المشروطة والتركيز على التنمية والتخفف من الاستبداد والاقتراب تدريجيا من الحكم الرشيد حتى لا تترك مبررا لواشنطن لممارسة دور الأستاذ المتعجرف.
ولن يكون الجانب الأمني بمنأى عن هذه التغييرات الصامتة، وبالتأكيد لن تجد السفارات الأمريكية مستقبلا كل الحرية كي تتجسس على أسرار الأنظمة.
* سكرتير تحرير العرب الأسبوعي
موقع ويكيليكس صار حديث العالم، الجميع يتابع أخبار الوثائق أولا بأول، ويطلق التكهنات حول الوثائق القادمة ويتساءل: من ستكون الضحية القادمة التي يفضحها هذا الموقع، وقد ظهر بين عشية وضحاها وصار الموقع الأشهر والأهم والأكثر جاذبية؟ ثم من يكون صاحب الموقع وكيف حصل على هذا الكم الكبير من المعلومات الخاصة بدولة تنهض وتنام على التجسس والتنصت على مواطنيها قبل غيرهم؟
ولأننا لم نتعود أن نتعامل مع الأحداث ببراءة الأطفال كما فعل الكثير من الإعلاميين العرب الذين تعاطوا مع "تسريبات" ويكيليكس وكأنها حقائق ثابتة، فقد سكننا السؤال دائما عمّا وراء الصورة: من وضعها ومن المستفيد منها، ولم نصدق لعبة ويكيليكس ولم نغتر بالبالونات التي أطلقها وحاولنا النبش في ما وراءها وما حف بها من تضليل وتوظيف ومصالح استعمارية، ونسجل هنا مجموعة من الملاحظات:
أولا؛ تكمن قيمة الوثائق المسربة عادة في أنها تحمل أسرارا خاصة ومهمة للطرف الذي سُرقت منه، وهو هنا الخارجية الأمريكية، لكن وثائق ويكيليكس لم يرد فيها ما يضر بالأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، وكل ما فيها هو وثائق عن عمليات التجسس والتقييمات التي تُصدرها السفارات الأمريكية في المنطقة العربية، وليس خافيا على أحد بما في ذلك الرؤساء العرب أن السفارات الأمريكية في عواصمهم تتجسس على بلدانهم وتمتلك معلومات دقيقة عن كل شيء لديهم.
ففي المجال العسكري أغلب السلاح خردة ومستورد إما من الولايات المتحدة أو من أوروبا، ويتولى "خبراء" أمريكيون إعادة تركيبه وتشغيله، ولا يخفى عليهم شيء بما في ذلك أسرار السلاح الذي يأتي من روسيا وقد أصبحت "دولة صديقة" تتحرك في الظل الأمريكي كما وصفناها في الملف الذي أعددناه منذ أسابيع في صحيفة العرب الأسبوعي.
وأكثر من ذلك، فهي تتولى تدريب القوى الأمنية وقياداتها على السلاح وتصدّر إليهم خبراتها في القمع والتعذيب "ففي أغلب عواصمنا دايتون شبيه بدايتون رام الله" خاصة بعد الخبرات الكبيرة التي امتلكتها في العراق وأفغانستان وفي حربها العلنية والسرية على الإرهاب، ومن ثمة فالمعلومات الأمنية ملقاة على قارعة الطريق بالنسبة إليها.
أما سياسيا فالسفارات الأمريكية تعرف كل شيء عن المشهد السياسي في مختلف العواصم العربية وغير العربية، وعلاقاتها "مفتوحة على الآخر" مع الشخصيات الرسمية و"المعارضة" "الراديكالية، وشبه الراديكالية، وخيال مآتة" و"المستقلة" وتعرف تفاصيل كل شيء، كما أنها على اطلاع واسع على تفاصيل الخصخصة والشخصيات المالية سواء من الحرس القديم أو من الوجوه الصاعدة المرتبطة بشكل أو بآخر بدوائر القرار السياسي في مختلف العواصم.
وبالتالي، فما جاء فيها من تسريبات لم يحقق اختراقا في الصورة المعلومة بالنسبة إلى الأنظمة التي تم استهدافها بالتسريبات ولا بالنسبة إلى مواطنيها الذين لا تزيدهم تلك التسريبات إلا اقتناعا بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون بلدا صديقا.
ثانيا؛ توهمنا تسريبات ويكيليكس "الخارقة" والمفاجئة بأن ما يحكمها هو "السبق" و"الكشف" ولا تحكمها انتقائية أو تصفية حساب، لكن تفاصيل الأخبار والنصوص التي نشرت لا نجد فيها إلا استهدافا لدائرة جغرافية وثقافية بعينها، هي المنطقة العربية زائد تركيا وإيران.
وما ذُكر عن أوروبا لم يتجاوز إطلاق نعوت تدخل في سياق المزاح تجاه بعض الشخصيات أمثال ميدفيديف وبوتين وساركوزي وبرلوسكوني "نعوت لا تساوي شيئا أمام الصور الكاريكاتورية التي تنشر لهم في وسائل إعلامهم بما في ذلك الرسمية".
أما التلويحات بالكشف عن حقائق "مثيرة" عن إسرائيل فقد انتهت إلى حديث يبرر عدوانها على غزة ويحاول توريط حركة فتح والنظام المصري من حيث معرفتهم بقرار شن الهجوم الإسرائيلي وصمتهم عليه، أي تسريب موجه ولا تحكمه صدفة أبدا، وقد وفر الموقع الفرصة لنتنياهو كي يعطي قياداتنا وزعماءنا الدروس في أسلوب التعاطي مع الشعوب وضرورة مصارحتها.
ثالثا؛ هل التسريب "البريء" و"الجريء" خاف من نشر وثائق يمكن أن تصنف تحت مظلة معاداة السامية فمارس الانتقاء، أم أن تلك الوثائق طاهرة و"نقية" من موجبات معاداة السامية كما أراد مسربوها؟
وهذا ما يؤكد أن التسريب كان موجها وهادفا ودقيقا وأن من سرّب تلك الوثائق لن يخرج عن إحدى دوائر الاستخبارات الأمريكية بغاية تحقيق أهداف بعينها.
التسريب الأول الذي ركز على العراق، ورغم بعض التهويل في الحديث عن الجرائم والوضع الإنساني فإن الغاية الأساسية منه كانت إرباك مفاوضات تشكيل الحكومة وقطع الطريق أمام المالكي ومنعه من ترؤس الحكومة الجديدة في محاولة يائسة لإضعاف النفوذ الإيراني القوي في العراق.
أما التسريب الجديد، فرسالته الرئيسية تستهدف تقديم صورة سيئة عن واقع غالبية الأنظمة العربية، وهي رسالة بالغة الدلالات والغايات، فهي من ناحية تزيد في إضعاف واقع تلك الأنظمة أمام جماهيرها، وتدفع الجماهير إلى اليأس في أي تغيير مدني هادئ تتم فيه الشراكة بين مختلف القوى السياسية بما فيها الأحزاب الحاكمة، ورهان التيئيس الأساسي هو توسيع دائرة التشدد والانغلاق باعتبارها الشرط الأول لنجاح "الفوضى الخلاقة" كأداة استراتيجية أمريكية للسيطرة على العالم.
رابعا؛ لم يكن الهدف من تسريب الوثائق كشف حالة الفساد الداخلي في أي بلد، وإنما تشكيل صورة واحدة تقريبا تقول إن غالبية الأنظمة العربية لا تعمل وفق أجندات وطنية أو قومية وإنما هي تختار بـ"حرية تامة" الاصطفاف وراء المصلحة الأمريكية وتعمل على تجسيمها عن قناعة تامة، بل تتبدى أحرص من الأمريكيين أنفسهم على تنفيذ تلك الأجندات وخاصة ما تعلق بالحرب على إيران.
ما جاء من تسريبات يقول إن الدول العربية "المؤثرة" تريد فتح مواجهة سريعة وعاجلة مع إيران لمنعها من امتلاك السلاح النووي، وتذكرنا خطابات التحريض هذه بالأجواء التي سبقت العدوان الأول على العراق "1991" حيث تطوعت العواصم العربية "الفاعلة" إلى التحريض السري والعلني عليه وأعطت كل المبررات السياسية والأمنية والأخلاقية لإدارة بوش الأب ثم تاليا الابن لخوض عدوانيْ "1991" و"2003".
وهكذا، ومثلما تقول روح التسريبات فإن أمريكا ليست متعجلة لضرب إيران ولكن المحيط العربي هو من يريد المواجهة، فالحرب حربه وأمريكا هي "فاعلة خير" تريد حفظ الأمن وحماية أصدقائها لا أكثر!، وهو ما يوسع دائرة العداء بين شعوب المنطقة ويقطع الطريق على أي تحالف استراتيجي بينها يتصدى للهيمنة الأمريكية ويهدد وجودها العسكري في المنطقة وخاصة في الخليج.
خامسا؛ أما إسرائيل، وفق الصورة "البريئة" للتسريبات فلا تزعج أحدا وليست عدوا استراتيجيا مثلما يسوق لذلك البعض، بل هي جار لا أحد يشتكي منه حتى بينه وبين نفسه، وهي الحالة التي تفضحها الوثائق المسربة ذلك أن السفارات الأمريكية تعرف عن أمتنا وأنظمتها كل شيء.
والرسائل تحمل في ما تُخفيه دعوة للتطبيع مع إسرائيل ما دامت "مسالمة" ولا تمثل خطرا على أحد عكس إيران، ومن ثمة ليس هناك مبرر لأن تؤجّل الأنظمة العربية التعاطي معها دون "عُقد" ودون أن تنتظر انتهاء مفاوضات السلام بينها وبين سلطة فلسطينية منزوعة الريش ترضى بالفتات لكن إسرائيل ترفض أن تمنحها ولو فتات الفتات.
وشرط التطبيع، وفق ما حملته الدلالات والرسائل الخفية للعبة ويكيليكس، ألا تكون العلاقة متكافئة وألا تحتكم إلى المصلحة المشتركة أو العامة "ونعني مصلحة الشرق الأوسط الكبير الخادم للامبريالية والسوق الاستهلاكية الكبرى لمنتجاتها"، بل علاقة فوقية تمارس فيها إسرائيل التفوق العسكري والاقتصادي والقيمي "بزعم أنها دولة ديمقراطية فيما العرب غارقون في الاستبداد والتسلط وربما لهذا شجعت واشنطن الحزب الحاكم في مصر على أن يمارس كل أنواع البلطجة والتزوير"، وتأتي تصريحات نتنياهو سالفة الذكر لتكريس هذا "التفوق الأخلاقي".
سادسا؛ وفي سياق خدمة الاستراتيجية الأمريكية/ الإسرائيلية جاءت تسريبات ويكيليكس محددة للأعداء الاستراتيجيين للصهيونية العالمية، ونعني إيران أولا، وهي قوة "رغم اختلافنا معها" تقف بصبر وتعال في وجه الامبريالية "أحيانا بأسلوب ساذج تطغى عليه الشعارات والمزايدات، وأحيانا أخرى بتحد جدي ومؤثر".
أما القوة الثانية التي استهدفها "التسريب البريء" فهي تركيا، ويبدو أن اللوبي الصهيوني "الأمريكي الإسرائيلي" لم ينس المواجهة الجريئة وغير المسبوقة التي خاضها أردوغان مع بيريز في منتدى دافوس، ولهذا تحدثت التسريبات عن أن الرجل يمتلك أموالا في حسابات بنكية خاصة في سويسرا "والغاية تشويه الصورة الثورية التي رسمها لنفسه عند العرب خاصة في ملف غزة"، وانتقل انتقام "التسريبات" إلى محاولة ربط أنقرة بدعم "القاعدة" وبالمقابل دعم إسرائيل وواشنطن لحزب العمال الكردستاني، أي تصفية الحساب بالحاضر مع تركيا التي قررت أن تخرج عن الظل الأمريكي والبحث عن مصالحها شرقا.
سابعا؛ هناك سؤال يطرح هنا أمام هذه القراءة المسترابة التي نزعمها: إذا كان جوليان أسانغ مؤسس ويكيليكس "صديقا" لأمريكا وقبل بتسريب ما تريد أن تسرب لماذا تلاحقه قضائيا وتفتح عليه نار جهنم؟
لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن هذه اللعبة ممكنة جدا، وللاستخبارات الأمريكية تاريخ طويل من الفبركات والمسرحيات والمناورات الاستخبارية متعددة الأشكال والأساليب والضحايا.
وسواء أكان أسانغ على علم باللعبة واشترك فيها طواعية أم تم إلقاء كل تلك الوثائق "مصادفة" أمامه ونشرها وهو يتوقع أنه حصل على سبق إعلامي لا مثيل له، فإن الآلة الإعلامية الأمريكية ستحرص على تجريمه وربما إصدار حكم قاس عليه قد يكون مدى الحياة وهي تريد أن تحوله إلى "شهيد" ومناضل شبيه بمانديلا تكون له سلطة معنوية على الناس فيتعاطفون معه "في سياق كراهية آلية/ ميكانيكية للسياسات الأمريكية" ومن ثمة يصدقونه.
أي يصدقون أن التسريبات كانت صدفة وأن جنديا عمره 23 عاما قد تولى نسخ وثائق وأسرار الخارجية الأمريكية "هكذا وكأنها وثائق مكتبة مفتوحة أمام العموم لا رقيب عليها"، ومن ثمة يصدقون أن التسريبات بريئة وتلقائية وأن أمريكا ليست قادرة على حماية وثائقها في ظل التطور التكنولوجي.
لكننا نطرح سؤالا إنكاريا أمام كل هذه البراءة: ماذا لو امتلك أسانغ وثائق تهدد النووي الأمريكي أو النووي الإسرائيلي، هل كانت واشنطن ستتعامل معه بكل هذه البراءة وسعة الصدر، أم كانت ستحاربه بكل ضراوة وقوة وربما تتم تصفيته قبل أن يفتح فاه بكلمة واحدة؟.
لو أن هذه الوثائق تستهدف مصالح واشنطن أو تدق الإسفين بينها وبين أصدقائها فإنها لم تكن لتسمح بنشرها وخبراتها الواسعة في تعذيب واختطاف وتصفية خصومها في "الحرب على الإرهاب" تقول إن هذا لا يمكن أن يحدث البتة.
ومما لاشك فيه أن التسريبات فضحت العقلية الأمريكية التي تريد أن توهم العالم بأنها سيدته الأولى وشرطيه الأوحد، وستبدأ مراجعات في أكثر من بلد عربي بشكل صامت وسري لبحث الاعتماد على الذات والتحرر من المساعدات المشروطة والتركيز على التنمية والتخفف من الاستبداد والاقتراب تدريجيا من الحكم الرشيد حتى لا تترك مبررا لواشنطن لممارسة دور الأستاذ المتعجرف.
ولن يكون الجانب الأمني بمنأى عن هذه التغييرات الصامتة، وبالتأكيد لن تجد السفارات الأمريكية مستقبلا كل الحرية كي تتجسس على أسرار الأنظمة.
* سكرتير تحرير العرب الأسبوعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق