مختار الدبابي*
لا شك أن الأوساط الرسمية العربية لم تكن تتصور أن تبلغ الجرأة بالرئيس الإيراني أحمدي نجاد حد زيارة الجنوب اللبناني والمبيت به في ضيافة حزب الله، أي على الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي مرمى السلاح الإسرائيلي الذي يرعب "المعتدلين" العرب ويخافون من مجرد ذكره فما بالنا بالتفكير في الاحتجاج عليه أو التصدي له..
فهذه الخطوة التي توصف عربيا بالمغامرة غير المحسوبة العواقب تكشف عن ثقة عالية بالنفس لدى القيادة الإيرانية وترسل برسائل كثيرة في اتجاهات مختلفة نأمل أن نقرأها نحن العرب ونحسن التعامل معها، ومن هذه الرسائل الإيرانية المشفرة التي جاءت زيارة نجاد لتزيح الستار عن علاماتها ودلالاتها؛
أولا؛ أن طهران التي تقول إنها تتحدى أمريكا وإسرائيل هي تفعل ذلك عمليا وتغالب الوقت لتكون جاهزة للمواجهة المرتقبة وأنها لا تبيع الكلام والشعارات، بل تصنع الصواريخ والمقاتلات والسفن الحربية، وليس في أجندتها تكتيك ولا مناورة يقودان إلى مفاوضات تجلب لها الذل والمهانة لشعبها.
ثانيا؛ أنها صارت رقما إقليميا لا يمكن التغاضي عنه أو تناسي مصالحه في حل أي قضية بالمنطقة، بدءا بالملف اللبناني الذي يمثل حزب الله الحلقة الأهم فيه والطرف الرئيسي الذي يستطيع أن يضمن الاستقرار ويصدّق على التفاهمات والاتفاقيات التي تتم في بعض العواصم العربية بالوكالة ولحساب الغير..
مرورا بالعراق الذي أصبح الدور الإيراني فيه مفصليا ولم تُفد معه الأدوار الخفيفة التي تنهض بها مصر أو السعودية في محاولة لـ"تعريب" الحل خدمة لأمريكا ومحاولة لإخراجها من الأزمة الخانقة وتسهيل انسحابها "المشرف" من بلاد الرافدين..
ووصولا إلى فلسطين حيث أصبحت الفصائل المقاومة تتعلق بالدعم الإيراني كقشة نجاة وحيدة عساها تتصدى للبيع العلني للقضية الذي نهضت به بعض العواصم العربية عبر بوابة مفاوضات السلام الكارثية.
ثالثا؛ الرسالة الإيرانية الجريئة تقول لإسرائيل إن طهران لا تمزح وأن أي غارة إسرائيلية مجنونة على منشآتها النووية مثلما تم سنة 1982 مع مفاعل تموز العراقي لن تمر بلا ثمن سريع وجاهز ومكلف، ولا شك أن إسرائيل ستقرأ الرسالة جيدا خاصة وقد خبرت حرارة رد حزب الله في حرب 2006، وتعرف أن صواريخه ستنطلق على المدن والقرى التي تريد تل أبيب أن تجعلها "يهودية خالصة" بعد أن طردت أهلها سنة 1948 و1967 وتريد إخراج من بقي ثابتا وتحمّل القهر والإذلال والعنصرية.
رابعا؛ نجاد الذي نام البارحة هانئا في ضيافة السيد حسن نصر الله كأنما أراد أن يقول للإدارة الأمريكية إن إيران هي الطرف الوحيد في المنطقة الذي لا مفر من التفاوض معه حتى تحقق واشنطن أجنداتها، فأذرعها العسكرية والسياسية موجودة في لبنان والعراق واليمن، وهي جاهزة للتعاون كما هي جاهزة للحرب.
ولقد استعانت أمريكا بالدعم الإيراني في غزو أفغانستان وخاصة في غزو العراق حيث قدمت طهران خبراتها ووظفت إمكاناتها في الإطاحة بحكم الرئيس صدام حسين واشتركت مع الأمريكيين في تصفية القيادات العسكرية والأمنية والسياسية للعراق وفتحت البلاد لهم ولها ولعملائها على الفوضى والفساد والتهريب.
خامسا؛ والرسالة الإيرانية الأهم التي حملتها زيارة نجاد كانت موجهة للعرب ومفادها أن طهران لن تكتفي بالعراق ولبنان واليمن بل سيصل تأثيرها إلى غزة والسعودية والكويت والبحرين وشمال أفريقيا، وأنها ستملأ الفراغ الذي تركه النظام الرسمي العربي بعد أن تخلى عن القضايا القومية وصار يخوض معارك الأمريكيين بوجه مفضوح.
إن إيران تستفيد بشكل جيد من السلبية الكبيرة التي تتعاطى بها الدول العربية الكبرى و"المعتدلة" مع مختلف القضايا، فماذا بيد حماس أن تفعل إذا كانت مصر تتولى مهمة حصارها وتجويعها ومنعها من مقاومة الاحتلال سوى أن تمد اليد للمال الإيراني، وكيف يمكن أن يكره الشارع العربي طهران إذا كانت تدعم حزب الله بالسلاح والتدريب والمال ليتصدى لإسرائيل ويطردها من لبنان ويحرر أراضيه؟
والمؤسف أن الدول العربية "المعتدلة" لا تحارب إيران إعلاميا ولا تسعى لقصقصة أجنحتها في لبنان وغزة والعراق رفضا لدورها الطائفي بالعراق أو لبنان، ولا انتصارا للأمة أو للمذهب السني أو لزوجات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما استجابة للرغبة الأمريكية وانخراطا مجانيا في حرب واشنطن المفتوحة (سياسيا واقتصاديا وإعلاميا) على طهران، وإلا أين كانت الآلة الإعلامية "العربية" حين وضعت إيران اليد في اليد مع أمريكا في احتلال العراق وتدميره وضرب وحدته الوطنية، ألم تفتح الكويت والرياض والدوحة أراضيها أمام القوات الأمريكية كي تدخل "آمنة" أرض العراق؟
إن بعض الزعامات العربية لا تُفكّر إلا في اللحظة الراهنة وتريد من الاصطفاف المجاني وراء الإدارة الأمريكية تحقيق أهداف خاصة كفرض التوريث أو تصفية بعض الخصوم السياسيين، لكن هذه اللعبة ستكون لها تداعيات خطيرة على مستقبل الأمة وعلى مستقبل هذه الأنظمة ذاتها، فالحرب بين أمريكا وإيران إما أنها ستدخل المنطقة في حالة من الفوضى الأمنية وهو ما سيعيد المنطقة إلى نقطة الصفر ويضرب المكتسبات التي حققتها ويغذي الإرهاب والعنف ولن تحقق هذه الأنظمة منها شيئا بل ستكون أول المتضررين، وإما أن تؤول الحرب إلى منتصر (طهران أو واشنطن) يتحكم في رقاب العرب ونفطهم وخيراتهم ووقتها لن يجد بعض الزعماء المتحمسين لضرب إيران خدمة للمشروع الأمريكي أي حظوة سوى التذلل والمسكنة .
إن رسائل نجاد التي رمى بها في وجوه الأمريكيين والإسرائيليين و"المعتدلين" العرب فرصة هامة ليقف العرب على الحقيقة ويعيدوا حساباتهم الآنية الضيقة ويفكروا في المستقبل.
* نص افتتاحية العرب العالمية (14 - 1 - 2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق