مختار الدبابي
ليس هناك شك في أن العولمة لم تقف عند كونها مفهوما اقتصاديا صرفا، بل توسعت لتتحول إلى ضاغط كوني يفرض على الثقافات المحلية أن تتخلى عن "انكماشها" وتندمج رغم أنفها في النموذج المعولم..
وميزة هذا النموذج أنه يريد أن يحكم العالم وفق آليات وقيم ومقاسات غير عالمية، بمعنى أنه لم يكن نتيجة تحولات حقيقية زاوجت بين التجارب المحلية في بلدان الشمال والجنوب، وإنما هو استنساخ لرؤى الرجل الأبيض ومناخاته الفكرية والحضارية وحتى الدينية ما يعني ضرب التنوع واختصار العالم في لوحة واحدة "الاقتصاد الواحد, السياسة الواحدة, الثقافة الواحدة, نمط المعيشة الواحد تكنولوجيا الانتاج و الأستهلاك الموحد و الميل الى "الغربنة" أو "الأمركة""1".
ثقافة الرجل الأبيض غيّرت في العالم الثالث الكثير، فقد طوّعت ذوقه ولباسه وطرائق أكله وحتى أحلامه، يكفي أن تجري استفتاء بين عشرات الناس من كل الشرائح والعائلات الفكرية والدينية العربية لتجد أن إدمانهم على تلفزيون الواقع حوّل اهتماماتهم إلى الربح السريع عبر برامج المسابقات التي تملأ الفضائيات العربية ببرامج مستنسخة، وعبر نمط جديد لإنسان متحرر ومنفتح وعلى استعداد ليفعل أي شيء من أجل أن يخرج إلى النمط الجديد.
ولقد قاتلت الثقافة المعولمة من أجل تذويب الخصائص الثقافية المحلية بما في ذلك الأديان التي "تم تطويعها لصالح رأس المال، فتمكنت الرأسمالية من احتلال الدين، وتسخيره لتبرير الحروب الاستعمارية بصيغ التبشير. وحين تدنى معدل الربح واتسع جيش العمل الاحتياطي، تم تسريح النساء من العمل إلى البطالة والعمل الجزئي، واستُنطق الدين ليقول: "إن المرأة الطيبة هي المرأة الكاثوليكية التي تجلس في البيت مع الأطفال وترضعهم" "2"
وعملت الإدارة الأمريكية طوال السنوات الثماني لحكم الرئيس بوش"الابن" على فرض الإصلاح الديني في السعودية، وهو إصلاح على غير المنوال الذي تطالب به قوى الإصلاح المحلية أو العربية، وإنما غايته امتصاص الروح العدائية التي تمتلئ بها برامج التعليم وخطب الجمعة وفتاوى الجهاز الديني بالسعودية، بما يهدد التحالف الاستراتيجي بين السعودية كطبقة سياسية والإدارة الأمريكية كقوة امبريالية معولمة.
وقد وصل الحد بإدارة بوش، وهي الأمينة على مهمة عولمة الدين إلى الدعوة لحذف الآيات التي تحض على الجهاد والحرب من النص القرآني.
وفي سياق توسّع العولمة وتمططها، شرعت في تذويب أهم عنصر يربط الفرد إلى هويته المحلية، ويجعل الدولة القطرية تتحكم في رعاياها وتروّج بينهم خطابها الثقافي والسياسي، وهذا العنصر هو عنصر العدالة والقانون كمرجعية خاصة لأي بلد حتى وإن تقاطعت تفاصيلها مع بعض بنود القانون الدولي.
إن العولمة، كمصطلح يخفي الهيمنة والعسكرية، تحاول بكل الجهد افتكاك عنصر القوة هذا لدى الدولة القطرية بغاية وحيدة وهي تحويلها إلى ما يشبه "خيال مآته" ولا يبقى لها سوى التصديق على المطالب الخارجية والمساعدة في إنجاحها.
وهنا فقط يمكن أن نفهم الخلفية التي جعلت المحكمة الجنائية الدولية تصدر برقية جلب في حق الرئيس السوداني عمر البشير بتهم منها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، فهذا الأخير منذ وصوله إلى السلطة في انقلاب عسكري "لم ترعه الولايات المتحدة على غير عادتها" خرج على المنظومة الدولية التي أسست لها العولمة/ الأمركة ما جعله هدفا لخططها وحملاتها وتضييقاتها.
إن هذه المحكمة "بقطع النظر عن مشروعية التهم والأدلة التي تمتلكها" اختارت أن تكون منذ تأسيسها في السنوات الأخيرة منحازة للمقاسات الأمريكية، فرغم أن الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بها وبصلاحياتها وأن يخضع لها جنودها، فإنها أثبتت مع مرور الوقت أنها آلية تابعة ضمن آليات أخرى عديدة هدفها فرض نمط العولمة/ الأمركة/ العسكرة، ولهذا جعلت قضيتها الرئيسية عمر البشير وتعمّدت تهميش جرائم الحرب التي ارتكبت في غزة وقللت من قيمة القضايا التي رفعها مئات النشطاء المدنيين والحقوقيين العرب والأجانب ضد الجنرالات الحاكمين في تل أبيب.
وأعطت هذه المحكمة مشروعية كاملة للسودان ليقول إنه "يخوض حربا مع المستعمرين الجدد وأدواته التي من بينها المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أمر اعتقال بحقه" "3".
والحقيقة أن هذه المنظمات أثبتت مع مرور الوقت أنها ديكور لثقافة الرجل الأبيض وآلية من آلياته الترويجية والقمعية في آن مجسدة في ذلك الرؤية الأشمل لهذه الرجل تجاه ما نسميه بالقيم الكونية، فهي ضرورية وإجبارية ما دام الطرف المقابل يرفض أن يدور في فلك المركز، وهي بلا قيمة ولا معنى إذا كان المعني بها "صديقا" وتابعا للمركز..
كما أن هذه القيم التي وُلدت ونضجت في الغرب ظلت مقوما من مقومات المركزية الأوروبية ثم الأمريكية لاحقا، ففيما أنتجت الثورة الفرنسية التنوير وحررت به أوروبا من سطوة الكنيسة والثقافة الكلاسيكية التابعة لها، نجد ذات الثورة تقدّم الفرش النظري والمفاهيمي اللازم لظاهرة الاستعمار.
ومفهوم الاستعمار نفسه امتداد لطبيعة الديمقراطية الغربية التي تؤمن بحكم الشعب نفسه وبنفسه ولنفسه، ما يعني ذلك أن هذه الديمقراطية لا يعنيها من نتائج خارج دائرة شعبها، فهي معنية فقط بتوفير المغانم له وتحقيق مستوى معيشي متطور وشروط من الحرية غير محدودة ولو على حساب الآخر الذي يكون خارج مركزها.
وهكذا جاءت أغلب المنظمات ذات الصبغة القانونية والحقوقية عاملة على تسييد المقولات الصادرة من المركز الغربي، وبما أن إسرائيل إفراز غربي في منطقة الشرق فإن المنظمات المعنية تتعاطى معها على أساس أنها معفاة من المساءلة ومن الالتزام بالمقولات الكبرى، والأمر ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الأمريكية.
إسرائيل ارتبكت آلاف التجاوزات في حق المنظومة القانونية الدولية التي صاغها المركز الغربي وفرض علينا الالتزام بها، ومع ذلك تستحي أغلب المنظمات الحقوقية، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، أن تحتج مجرد الاحتجاج عليها، واستمعنا إلى السيد لويس مورينو أوكامبو، مدعي هذه المحكمة التي تخصصت في ملف البشير دون سواه، كيف قال إن ليس لديه تفويضا قانونيا للتحري فيما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت جرائم حرب في غزة، وأن المحكمة لا تستطيع فعل شيء حيال النداءات التي وجهتها منظمات تعني بحقوق الإنسان، للتحري حول المجازر الإسرائيلية في غزه.
وقال أوكامبو، إن صلاحيات المحكمة تقتصر علي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والابادة الجماعية، التي ترتكبها دولة ما عضو في المحكمة أو ترتكب على أراضيها.
لم نسمع أصوات هذه المحكمة ولا غيرها من المنظمات والهيئات المنافحة عن حقوق الإنسان حين ارتكبت إدارة بوش الكثير من التجاوزات القانونية خلال احتلال العراق، أو في حربها على الإرهاب من اعتداءات على كرامة الأفراد وتعذيب وسجون سرية، ومن إصرارها على الاحتفاظ بمعتقل جوانتنامو رغم دلالاته الرمزية السيئة..
لكن من السهل أن تجد هذه المنظمات وهي تقيم الدنيا على خطأ معزول في بلد عربي، وتدعو إلى تسليط العقوبات عليه ومحاصرته، وربما إلى محاكمة رئيسه كما يحصل الآن مع الرئيس السوداني الذي يرفض أن يكون كبش فداء لاستئساد هذه المنظمات ومحاولة تبييض صورتها التي اهتزت بعنف بعد صمتها المريب أثناء المجازر الإسرائيلية في غزة.
إن هذا الشرخ الواسع في المقاربة الحقوقية من المنظار الغربي يحتاج إلى حل جذري يعيد الاعتبار لكونية الحقوق والقيم، ليس باعتبارها آلية تنفيذية لفرض العسكرة الامبريالية، وإنما كآلية تساوي بين الدول والناس وتحقق العدالة المفقودة بما يعطي مشروعية لجهد العولمة لإزالة الخصوصيات وتعميم المساواة وقطع الطريق أمام التلاعب المحلي/ القطري بالقانون.
وما لم يتحقق ذلك، فإن الصراع سيتحول إلى قانون بدل القانون، وستذهب هباء كل الجهود الفكرية والسياسية التي تقف في مواجهة عولمة صراع الحضارات والأديان، بمعنى أن العالم سينقسم من الآن إلى عالمين؛ عالم المركز الذي يريد الهيمنة عبر العولمة، وعالم المحيط الذي يريد أن يتحرر من العولمة وخلق بدائل قانونية وحقوقية جديدة يواجه بها السطوة المضادة.
وبالنتيجة، فإن الخصوصيات الثقافية في عالم المحيط ستعمل على الانكماش على ذاتها وترفض الانفتاح على القيم الوافيدة، وهذا يؤشّر إلى صعود التيارات اليمينة الرافضة واكتسابها المشروعية الشعبية والأخلاقية، وهنا فإن الوطن العربي سيكون مهددا بالوقوع بين كماشتي التيارات الإسلامية المتشددة أفي ظل استمرار سياسة المكيالين في المؤسسات والهياكل الدولية.
والحقيقة الماثلة للعيان أن الدول العربية تقطع خطوات كبيرة في الدفاع عن مكاسبها ضد سطوة اليمين الإسلامي المتشدد، من خلال إصلاح التعليم ومحاربة الفقر وإصلاح واقع المرأة، لكن علاقتها بالمركز الغربي تمحو كل تلك النجاحات في لحظة، فما جرى في غزة جعل أغلب الدول العربية ممزقة بين التزاماتها القومية وانحياز شعوبها للحق والعدالة، وبين التزاماتها مع الولايات المتحدة التي تكبّلها بالتفاهمات.
لقد أعطت هذه الوضعية الحرجة نقاط حوافز إضافية لخطاب التشدد كي يرتفع، وفرضت على خطاب الحداثة والاندماج في العولمة أن يتراجع.. صار من السهل الآن على هذا اليمين أن يطالب بمدونة حقوقية جديدة من قلب التراث وفرضها على الناس بمن فيهم الإسلاميون الباحثون عن التجديد والانفتاح.
إن الصراع في المنطقة العربية الإسلامية سيصبح معقدا أكثر فأكثر لصعوبة الوصول إلى مقاربة تحفظ للمحلي خصوصيته واستقلال قراره وتجعل القانون المعولم هو الفيصل.
ومع انحيازنا لمنظومة القيم الإنسانية الكونية والدعوة إلى تأسيس آليات وهياكل وفية لها وخارجة عن القبضة الامبريالية، فإننا لا يمكن أن نجد مبررا واحدا لعجز القانون المحلي في السودان مثلا عن محاكمة أولئك الذين ارتكبوا هذا الكم الكبير من الجرائم في دارفور، من اغتصاب وقتل وتشريد، وإن كنا ننزه الرئيس السوداني عن فعل بعضها أو إعطاء الإذن لتنفيذها، فإننا لا ننزه دوائر رسمية سودانية عن الاشتراك في صياغة هذه الصورة الكارثية وبذات الدرجة من المسؤولية نحمّل الفصائل المتمردة التي أرادت الوصول إلى السلطة بكل الطرق، ولو بخلط الأوراق وتسهيل تدويل الملف والاستهانة بأمن وكرامة أبناء دارفور.
اختلافنا مع سطوة العولمة واحترازنا على جهودها لتذويب خصوصياتنا ليس مبررا لأن ندير الظهر للقانون والقيم الإنسانية حتى وإن كانت منتجا تابعا للمركز الذي لا يفتأ يبحث عن طرائق جديدة لاستعمارنا..
وهناك أمل في أن يواصل المثقفون والمفكرون العرب الباحثين عن التحديث والتطوير جهودهم لصياغة منظومة فكرية عربية تنبني على هذه القيم، فلا مستقبل للعرب خارج التحديث والانفتاح على الآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق