مختار الدبابي
لا تكاد تسمع على أفواه رموز الإدارة الأمريكية الجديدة سوى كلمات حاسمة عن الانسحاب من العراق خلال 16 شهرا.. وتأتي هذه الكلمات غامضة مبهمة، فليس هناك حديث عن تفاصيل الخطة ولا الضمانات التي تطلبها الإدارة الجديدة من أجل هكذا انسحاب حتى خُيّل لبعض الحالمين العرب أن أوباما ذا الجنوبية/ الأصول الشرقية سيعيد إلى هذا الزمن الأمريكي الكولونيالي المتوحش بهاء قديما كان ابراهام لنكولن الأسود مثله قاد ثورة لأجل صنعه ولو إلى حين.
وما إن ظهرت الإدارة الأمريكية الجديدة حريصة على أن تتكتم على التفاصيل، كان نبهاء العرب يستنتجون أن هناك شيطانا ينام في تلك التفاصيل وأن الانسحاب الموعود لا يعدو أن يكون انسحابا ملغوما.. وكعادة الوافدين الجدد إلى البيت الأبيض، فإنهم وبعد أن يطلقوا الوعود بـ\"التغيير\" و\"الديمقراطية\" ويجعلوا العالم يحلم معهم بزمن أفضل، يعمدون إلى إطلاق التسريبات هنا وهناك التي يفهم منها العارفون بالطبائع الكولونيالية أن غاية تلك الضجة هي إيهام الناس بأن زمنا جديدا قد بدأ ومن واجبهم أن يعطوه الفرصة الكافية لبداية \"التغيير\".
نتذكّر السيد بوش الابن كيف ملأ الدنيا وشغل الناس بحديثه عن الديمقراطية والإصلاح وأنه سيكون \"رسولا\" من أجل توسيع دائرة تطبيق هذه القيم وخاصة في المنطقة العربية الإسلامية، وبدأت تنعقد منتديات وملتقيات عن الإصلاح بعضها تلقائي وبعضها الآخر بإيحاء أمريكي، لكنه ارتد بعدها بأشهر قليلة دراغولا يلتذ بإسالة الدماء، ويتباهى بخرق الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تعنى بحقوق الإنسان، والتي ترفعها منظمات أمريكية سيفا مسلطا على رقاب دول العالم الثالث.. ويكفي هنا التذكير بجوانتنامو، والسجون السرية، والاختطافات على طريقة العصابات، وأبو غريب.. وغيرها كثير.
سمعنا السيد أوباما منذ أيام يبشّر بعالم جديد وبأمريكا وفية لقيمها مع نقد جلي للإدارة الماضية ليس فقط حول تعاطيها مع الأزمة الاقتصادية والفساد الذي ارتبط بها وكانت الشرارة الحقيقية التي أحرقت كل شيء، وإنما في نزوعها إلى الحروب، وخاصة الحرب على العراق.. هذه الحرب التي يجد الرئيس الأمريكي الجديد تجاهها أنه في ورطة وكأنه هو من خاضها ويريد أن يخرج منها، فخطابه التفاؤلي سواء خطاب اليمين، أو خطابه الثلاثاء الماضي أمام مجلسي الشيوخ والنواب، أو خطابه أمس جعله يؤكد أن الانسحاب أمر لا مفر منه وإن كان \"انسحابا مسؤولا\"، وهذا ما جعل أصواتا من داخل \"الصقور\" تحذّره بينها منافسه على الانتخابات جون ماكين، والسفير السابق في بغداد ريان كروكر الذي قال إن مخاطر جدية قد تترتب على انسحاب امريكي سريع من العراق بما في ذلك تعزيز مواقع \"تنظيم القاعدة\" وتقويض السعي نحو تأسيس مجتمع مستقر.
وكان كروكر يتحدث للصحفيين قيامه وعدد من كبار ضباط الجيش الامريكي باطلاع الرئيس اوباما على الوضع في العراق.
والسؤال المطروح هنا: ما معنى \"الانسحاب المسؤول\"؟
إنه مفهوم غامض سيتم عبره الالتفاف على القرار \"الشجاع\" الذي سبق إعلانه في سياق الحملة الانتخابية وأيام التنصيب وأداء اليمين، وهي فترة كان فيها أوباما نجم المستقبل.
وفي قراءة لما يرشح هنا وهناك من تصريحات وتسريبات وكذلك من خلال التدقيق في نص الاتفاقية الأمنية التي سبق للمالكي وبوش أن أمضياها سويا ولم يتبرّأ منها أوباما ولا تحدث عنها أصلا، فإننا نقدر أن تكون مفاصل خطة أوباما كالتالي:
1 – الحصول على ضمانات عراقية قبل الانسحاب، ومن هذه الضمانات وأهمها ترك حكومة \"صديقة\" في بغداد، وهذا يعني أساسا قطع الطريق أمام هيمنة إيران على المشهد السياسي العراقي وفرضها وجوها تابعة، ويقرأ الكثير من المحللين نتائج انتخابات المحافظات الأخيرة في العراق بأنها نجحت في تحقيق جانب من هذا الشرط الأمريكي فقد سقط الموالون لإيران بالضربة القاضية، وخاصة المجلس الأعلى الذي كان ورقة سياسية وعسكرية ومذهبية إيرانية بامتياز.
ومع تغذية خفية لتحالف بين المالكي والصدر من أجل وقف سطوة تيار الحكيم/ المجلس الأعلى، تكون الإدارة الأمريكية قد دقت الإسفين في نعش التحالف الشيعي وهدمت أركان الثقة بين أفراده وأحزابه ومليشياته، ومن السهل عليها بعد ذلك تهميش التيار الصدري والقضاء عليه في ظل تذبذب قيادته وقصورها الفكري، فهي تارة في قلب العملية السياسية وتارة خارجها، وأحيانا أخرى نجدها تتقرب من الحركات المقاومة.
ويجري حديث عن أن السفير الأمريكي الجديد هيل سيواصل مهمة كانت غاية في السرية لسلفه كروكر، وهي انفتاحه على وجوه الصف الثاني من النظام السابق \"وجوه سياسية وعسكرية\" من أجل إعطائها دورا \"مؤثرا\" في السلطة يمنع انتكاسة الفريق الشيعي في الحكومة وعودته باتجاه إيران، والدليل هو عودة جماعية لأفراد الجيش السابق إلى السلك العسكري، وسريان مفاوضات بعيدة عن الأضواء بين شخصيات أمريكية ووجوه بعثية سابقة تقيم في دول الجوار العراقي تم التغاضي عن محاكمتها وتركها خيارا بديلا.
ولا يستبعد أن يتم تشكيل حكومة عراقية بمواصفات أمريكية تجمع كل هذا \"الموزاييك\" بعد الانتخابات التشريعية القادمة المقررة لآخر العام.
2 – نأتي الآن للضمانات الأمنية والتي تعني إبقاء وجود أمريكي \"فعّال\" لمنع التلاعب بـ\"الصداقة\" الأمركية العراقية وعودة إيران أو صعود \"القاعدة\" أو أي تيار متشدد شبيه بها، ولهذا تتحدث تسريبات إعلامية عن رغبة إدارة أوباما في الاستفادة من نقاط قوة الاتفاقية الأمنية، وخاصة ما يتعلق بالامتيازات القانونية التي يحصل عليها الجندي الأمريكي وحصانته أمام أي عمل عسكري ينهض به.
وهذه \"الاستفادة\" تجد مبررات لها في الاتفاقية/ الملحق التي أبرمتها إدارة بوش مع حكومة المالكي بعد نهاية التفويض الأممي للقوات الأجنبية، وهي اتفاقية تقول إن الحكومة العراقية يحق لها التمسك ببقاء أي قوات أجنبية، وبالنتيجة فإن القوات الأمريكية المرغوب فيها عراقيا لن تنسحب بالكامل بل ستترك قوات للضرورة، وعدد هذه القوات قد يصل إلى 50 ألفا مثل ما تقول بعض التقارير، بالإضافة إلى قواعد عسكرية يركن لها هؤلاء حتى \"ينسحبوا\" من التراب العراقي، ويتحكموا بعد ذلك في الأجواء والحدود البرية والبحرية.
وهي نتيجة سبق للمفكر الأمركي نعوم تشومسكي أن اشار لها في تعليقه على الاتفاقية الأمنية و\"وثيقة المبادئ\" حين قال \"هذه الوثيقة فتحت المجال أمام احتمال بقاءٍ طويل الأمد وغير محدّد للقوات الأمريكية في العراق، وهو بقاء من المفترض أن يشمل القواعد الجوية الضخمة التي تُبنى حالياً في أرجاء البلاد، و\"السفارة\" في بغداد التي تعدّ فريدةً من نوعها بين سفارات العالم، نظراً إلى أنّها أشبه بمدينة ضمن مدينة. فهذه القواعد وهذه السفارة لا تبنى ليتمّ التخلّي عنها لاحقاً\".
3 – ويضع تشومسكي الإصبع على الهدف الأبرز لهذه الاتفاقية، ومن ورائها عملية الغزو ككل، وهو استغلال امكانيات العراق، إذ يقول \"ناهيك عن أنّ الوثيقة تضمّنت إعلاناً عن استغلال ثروات العراق لافتاً لوقاحته، فقد نصّت على أنّ اقتصاد العراق، أي موارده النفطية، لا بد من أن يكون مفتوحاً أمام الاستثمار الأجنبي، \"خاصة الاستثمار الأمريكي\".
وفي هذا الإعلان ما يشبه القول إننا غزوناكم، كي نسيطر على بلدكم، ويكون لنا امتيازُ الوصول إلى مواردكم، أو أعطنا النفط نعد لكم العراق، ما يعني معادلة النفط مقابل العراق، وهو ما يبدو أن إدارة أوباما ترفعه، قياسا على برنامج النفط مقابل الغذاء.
وواضح هنا أن إدارة أوباما تريد تحقيق المكاسب الاستراتيجية مستغلة التفاؤل الساذج بالزمن الأمريكي الجديد، وهناك مخاوف من أن تنجح هذه الإدارة في دفع الفرقاء العراقيين \"المتفائلين\" بـ\"التغيير\" الأمريكي إلى تمرير قانون النفط أمام البرلمان العراقي، أو تفويض الحكومة لإبرام الاتفاقيات النفطية طويلة المدى مع الشركات الأمريكية والعالمية الكبرى التي ساندت الغزو ومولته وقادته عبر أبرز رموزها في فيلق المحافظين الجدد.
للإشارة، فإن السيطرة على النفط العراقي سيسمح لها بالتحكم من خلاله في اسعار النفط العالمية، ورهن الواردات النفطية بالنسبة إلى الاقتصاديات العالمية الكبرى، خاصة أنها تهيمن على حركة النفط الخليجي، ليس فقط من خلال اتفاقياتها السرية والعلنية، وإنما، ايضا، من خلال القواعد العسكرية المزروعة على طريق النفط قبالة مضيق هرمز الذي تلوح إيران بغلقه، وهو تلويح يساوي آليا انطلاق حرب جديدة.
والنتيجة، كما يقول الخبراء، أن اسعار النفط ستنخفض الى أدنى مستوى وسيصل النفط الخليجي الى أمريكا بأبخس الأثمان مما ينعكس في النهاية على المستوى الاقتصادي لهذه الدول وهذا سيؤدي الى إضعاف الدول الخليجية والدول العربية عموما حيث تمثل الدول الخليجية القوة الاقتصادية للدول العربية...
ومن المستحيل أن يدير الرئيس الجديد الظهر لهذه \"المنافع\" الأمريكية ويقر سريعا الانسحاب، خاصة أنه يأتمر بأوامر الأجهزة المتعددة التي تصنع القرار، فمثل هذه الخطوة تعني آليا أن أوباما وخبراءه الاستراتيجيين قرروا العودة إلى المربع الصفر، مربع تعدد الأقطاب والتفويت في زعامة العالم، وهو ما يتناقض مع الدراسات الاستراتيجية المتعددة وآراء الخبراء، من ذلك أن ألان جرينسبان الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي يعلن أن الحرب على العراق لم تكن سوى من أجل النفط.
وقال في كتابه \"عصر الإضرابات\" مفسرا خفايا قرار حرب 2003 على العراق انه بغض النظر عن قلق بريطانيا وأمريكا المعلن بشأن أسلحة الدمار الشامل الخاصة بصدام حسين.. يحزنني أنه ليس من المناسب سياسيا الاعتراف بما يعرفه الجميع وهو أن حرب العراق كانت الى حد كبير من أجل النفط.
ويسجل جرينسبان مقولة الرئيس الامريكي جورج بوش.. ادماننا للنفط هو الذي يجعل لمستقبل منطقة الشرق الاوسط اعتبارا أكثر أهمية في أي توقع طويل المدى للطاقة قائلا ان أي أزمة نفطية تشكل ضررا بالغا بالاقتصاد العالمي.
ومن المؤكد أن المقاومة العراقية ومختلف ألوان الطيف الوطني العراقي سيقرأ رسائل أوباما وتسريباته المتعددة قراءة سليمة ويكتشف أن خطة أوباما التي توهم بـ\"التغيير\" تجاه العراق لا تعدو أن تكون حركة \"ذكية\" تعيد إنتاج الاحتلال، ولكن في صورة أسوأ لأنها تتخفى وراء الوعود والتطمينات والشعارات وتتشبّث بالمكاسب والقواعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق