مختار الدبابي
سجلنا فرحا عارما لدى الكثير من العرب بعد فوز باراك أوباما، وكأنما الذي وصل إلى البيت الأبيض مناصر لقضايا العرب، أو أن اللوبي العربي الإسلامي هو الذي أوصله إلى السلطة، وليس اللوبي الصهيوني الذي ذهب باراك "حسين" أوباما لأجل أصواته وماله إلى إسرائيل وراح يتمسح على أعتاب "حائط المبكى".
ليس هناك شك في أن العرب بلا ذاكرة، بمن في ذلك أغلب الكتاب والمثقفين الذين هللوا وما يزالون لصعود هذا الأسمر إلى البيت الأبيض فنحن دائما نفكّر باللحظة التي نعيشها، وتقودنا العاطفة إلى التصفيق والهرولة وراء ما ظهر من الصورة..
ليس غريبا أننا، الأمة التي رفعت اللاءات وهددت برمي أعدائها في البحر، نسيت شعاراتها وتهديداتها، وأصبحت تتعايش مع العدو الاستراتيجي "صديقا" وتأكل من تفاحه وتغدق عليه نفطها وغازها ومبادراتها، وأن تصفق لصعود أصدقائه إلى السلطة وأن تشرب على نخبه...
هذا الذي صفعنا صفعة قوية منذ أن ظهر في الصورة "الديمقراطية" وألبسناه لبوس "الإسلام" وكدنا نقسم للعالم أننا ختنّاه وأدخلناه ديننا، لكنه يمارس التقية، كما نمارسها نحن لنقتل بها بعضنا أفظع قتل، لكن الرجل أعلن ولاءه الكامل لإسرائيل وقال إن القدس عاصمتها الموحدة والأبدية وأنه سيقاتل لأجل أن تعيش في أمن وسلام!
أما سر وهمنا الحقيقي، فهو أن "القط الأسود" وعد بأن ينسحب من العراق، ونحن نمنى النفس، "وخاصة أولئك "المثقفين" الذين أشبعونا زمنا ما بوعود النصر"، بأن ينسحب الرجل فعلا ونقفز نحن إلى الواجهة ونقول إننا انتصرنا وحررنا وقاومنا وطردنا عدونا شر طردة..
ما أكبر الوهم.. ما أمرّ الحقيقة
هكذا بجرة قلم ينسحب أوباما من العراق ويرمى وراءه 5 سنوات من الخسائر والقتلى والجرحى والمعتوهين والمشوهين.. من أجل أن يكتب سيد البيت الأسود تاريخنا من جديد، ويسمح لنا أن نقول لأجيالنا القادمة إننا انتصرنا وأطردنا "مغول العصر".. ونجدد الوهم فينا ونظل أمة شعار وأحلام وأماني بأن نظل خير أمة أخرجت للناس.. ولكن على الورق!
قد يكون بوش أسوأ رئيس أمريكي، وقد يكون يكره أمة العرب لأنه يؤمن أن انتصار إسرائيل علينا هو علامة من علامات عودة السيد المسيح لينقذ العالم من الفساد.. قد يكون شعوره بأنه مبعوث إلهي قد زاد في عدائه لنا وعاملنا بقسوة وكراهية..
كل هذا معقول ومقبول، لكن بوش ليس هو من أعلن الحرب على العراق ولا أبوه من قبله، فأمريكا التي تقود العالم بالعلم والعصا معا، ليست من طينتنا نحن العرب الذين يفعل الحاكم الفرد فينا ما يريد ويشتهي حتى يعف عنا بكرم منه وطيبة معشر!
أمريكا دولة مؤسسات ومراكز بحث ودراسات إستراتيجية وخبراء وكونغرس ومجلس شيوخ، وما يفعله السيد بوش لا يعدو أن يكون تنفيذ أوامر وخطط مرسومة سلفا وصادقت عليها حكومة ظل وكل وزرائها ومستشاريها، فهي من فبركت حجج وبراهين كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق وقدمتها إلى كولن باول ليعرضها مزهوا، ويكتشف بعد خروجه من السلطة أنه كان بيدقا!
وبالتأكيد فإن باراك أوباما لن يكون أفضل حالا من بوش أو باول أو رايس أو تشيني، وسيمضى في طريق سلفه بوش من حيث السمع والطاعة لخبراء الظل، فإذا قالوا له لا تنسحب فلن ينسحب، وإذا قالوا له لملم أشياءنا قليلا فسيفعل وسيدعو آلافا من الجنود لينسحبوا على أن يتمركز البقية في القواعد العسكرية بعد أن تكون حكومة "الفتى الأسمر" قد أمضت على الاتفاقية الأمنية التي تمنع الاعتداء على الوجود الامريكى وتسمح للأمريكيين أن يعيثوا في الأرض والناس والقانون فسادا..
كان يمكن أن نقرأ الصورة بشكل مغاير ونتنبأ أن الاستراتيجيين الأمريكيين يشعرون بالورطة وأنهم فضلوا أن يصعد أوباما كوجه جديد وكرجل أسود و"ديمقراطي" ليخفف من وطأة إرث بوش، خاصة أن الأخير كان دائما يبشر بالنصر القريب، ويوهم أن العراقيين استقبلوا جيشه بالورود، وأن قلة من أتباع "القاعدة" هم من ينغص عليه صفاء النصر، ولم يعد بإمكانه أن يتراجع ويناور كما تفعل الجيوش، لا هو ولا ماكين الذي كان من الممكن أن يخلفه لو قررت قيادات الظل ذلك..
أوباما ما زال غفلا وفاقدا للخبرة، ويمكن أن يمسحوا فيه أخطاءهم، ويمكن أن يتخذوه مطية للتراجع وتقديم تنازلات لإيران أو سوريا، أو عباس، أو حماس، أو القاعدة، أو طالبان، أو المقاومة العراقية، بما يسمح لأمريكا أن تستعيد توازنها قليلا وتستعيد من ثمة المبادرة والمناورة.
لسنا ضد التنبؤ بأن يكون أوباما بوابة الانسحاب، أو أن الأمريكيين قرروا سر الانسحاب وجاؤوا بأوباما ليمرروه، أو أن المقاومة العراقية أوجعت المحتلين وتدفعهم دفعا إلى الرحيل، لكننا ضد التوهم الساذج بأن رجلا ما في أمريكا "حتى ولو كان رئيسها" يستطيع منفردا أن يعلن الانسحاب ويقول للعراقيين والفلسطينيين والسوريين والإيرانيين والأفغان نحن آسفون عودوا إلى قواعدكم واسترجعوا أراضيكم واحكموا شعوبكم كما أردتم وكنتم، ولا أحد يقترب منكم أبدا.
ومن المهم الإشارة إلى أن استبشارنا الواسع بصعود أسود إلى البيت الأبيض نابع من إحساس حقيقي بالعجز عن الوقوف في وجه قوة عالمية احتلت صدارة العالم وصارت الشرطي الوحيد، ولن نجاريها ولن نوجعها إذا لم نعالج قضايانا الحقيقية.
التحرير أولوية، لكن هذه الأولوية لا تتحقق في زمن عربي فاقد لأهم مقومات الحضارة، فقد فضحتنا الأزمات العالمية الأخيرة "أزمة الغذاء، أزمة النفط، أزمة العقارات"، ووجدنا أن اقتصادياتنا هشة وأننا لا نقدر أن نعيش لحظة دون إعانات أو قروض من الخارج..
الجوع كان سيتهدد ملايين العرب لو استمرت أزمة الغذاء قليلا، لأننا أمة تأكل من خيرات غيرها، وما نسمعه هنا أو هناك عن الاكتفاء الذاتي كان فرقعة إعلامية لتثبيت التخلف.
لو تصفحنا تقرير منتدى دافوس الأخير، لوجدنا أن دولا عربية كثيرة غارقة في الفساد الإداري وفاقدة للشفافية والنزاهة في توظيف المال العمومي، واقتصادها فاقد لمقومات المنافسة.
الأزمة المالية الأخيرة وقفنا فيها على مفارقة عجيبة، فبقدر امتلاكنا للمال الوفير وللودائع السمينة، فقد خرجت اقتصادياتنا مربكة لأن "القطط السمينة" في واشنطن لحست أموالنا وضحكت على ذقوننا..
هل تقدر أمة ينخرها التسلط والاستبداد أن تنهض بمهمة التحرير والتنوير والتطوير والتحديث، وكل شعاراتنا البراقة..
الأزمة الحقيقية تكمن في كوننا، على حد قولة المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، أمة لديها القابلية للهزيمة وتبحث عن منقذ خارجها، فتارة تتعلق بقشة أمل دينية آتية من طهران التي أعطتنا مئات الأدلة والقرائن أنها دولة قومية فارسية وكفى.
وأخرى أيديولوجية قادمة من موسكو التي مثل اجتياحها أراضى جورجيا قادحا لأن نخرج ترسانتنا الأيديولوجية من أغمادها، لكن موسكو قبلت صفقة ما وانسحبت وخيبت ظننا فانكفأنا على أنفسنا خائبين..
وعدنا إلى الأمل مع أوباما على اعتبار أن الرجل أفريقي أسود، قد تكون أصوله عربية!
ولكن، للأسف لن ينهض الرجل بحروبنا، فهو وإن كان أسود، فعقله وقلبه وحلمه أبيض!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق