الثلاثاء، 7 ديسمبر 2010

"مراجعات" إخوان سوريا.. مقدمات موضوعية لنهاية الطوباوية

مختار الدبابي

لا تكاد تسمع في ساحة العمل الإسلامي إلا عن المراجعات، فهذه الحركات السلفية الجهادية تعلن التوبة تلو ‏الأخرى وتطلّق المسار الذي خلّف آلافا من الضحايا بين قتلى وجرحى ومساجين وأعطى مبررات لبعض ‏الأنظمة العربية لتلتف على الإصلاح السياسي والاجتماعي باسم قطع الطريق عن القوى الدينية مع أنها لا ‏تكاد تختلف عليها سوى في امتلاك القوة.‏

آخر المراجعات طالت التيار الإخواني الذي يهمين على مساحة كبيرة في دائرة التنظيمات الإسلامية، ‏والحركة المراجعة هي حركة "إخوان سوريا" التي سبق لها أن سلكت أبوابا كثيرة للتحالف ضد النظام بما ‏في ذلك التحالف مع عبد الحليم خدام أحد الرموز المنسحبة من النظام السوري وأحد الشركاء الفاعلين في ‏المواجهة التاريخية معها والتي بلغت مداها في مدينة حماه سنة 1982.‏

فجأة تناست الحركة تراث المواجهة وتراكمات العداء مع السلطة وأعلنت وقف كل الخلافات‏‎ ‎‏ تحت مبرر أن ‏الخلاف مع السلطة ثانوي وتكتيكي فيما الخلاف مع الاستعمار والامبريالية استراتيجي، وبما أن السلطة ‏ترفع لواء حلف الممانعة وتؤمّن الغطاء السياسي للمقاومة فإن الحركة قررت وقف معارضتها للنظام ‏وعرض التحالف معه في هذه المهمة "الاستراتيجية".‏

وأيا كانت مبررات هذه "التوبة" السياسية المفاجئة لإخوان سوريا، فإنها تحمل الكثير من الدلالات الثاوية ‏خلف جبل الثلج، ليس فقط لهذه الحركة بل للحركات الشبيهة التي رفعت السلاح في وجه أنظمتها، أو بحثت ‏عن الانقلاب ثم عجزت ففرت إلى الخارج، أو تلك التي راهنت على توظيف العداء الخارجي لأنظمتها لتعبر ‏عبره إلى السلطة.. ومشهد العائدين على ظهور الدبابات الأمريكية لا يزال راسخا في الأذهان.

‏1 - أولى هذه الدلالات أن الحركات العربية المعارضة بمختلف مشاربها اكتشفت أن الهروب إلى بلاد الثلج ‏والصقيع وإدارة الصراع مع أنظمتها من هناك لم يعد ذا فائدة..

لقد وقفت على حقيقة فارقة وصادمة بعد ‏نصف قرن من التجارة بالشعارات والوعود، وهي أن الغرب لا تعنيه كثيرا تلك القيم إذا لم تحقق له ‏مصالحه.‏

لقد حاول الغرب "الديمقراطي" أن يجعل من هذه الحركات طابورا خامسا يضغط به على الأنظمة حين يختلف ‏معها في قضية، أو يريد منها أن تتنازل عن موقف أو تبرم صفقة ما، وخاصة حين تتمسك باستقلال ‏قرارها الوطني في التعاطي مع ملفات تتقاطع فيها المصالح..‏

السذاجة الفكرية والسياسية جعلت المعارضات العربية التي تتقوى بالغرب، يمينها ويسارها وليبراليّها، ‏تكتشف متأخرا أنها كانت مجرد كمبارس ولعبة مل منها أخيرا بعد أن وجد أنه لم يعد لها تأثير داخل ‏شعوبها حتى صار بعضها مثل المومياء التي يتم عرضها في البازارات، فهذا الغرب لا يتذكّرها إلا ليعرضها ‏في تلفزيون ما توجّه عبره السباب لأنظمتها ثم تعود إلى الشرانق.‏

الغرب الامبريالي حسم المسألة بعد التجربة المريرة في العراق، حيث لم تقو "المعارضة" بعد كل الدعم ‏والتمويلات في أن تفرض الاستقرار رغم مرور ست سنوات على الغزو الذي وضعها في الحكم..‏‎ ‎‏ وهي ‏رسالة دقيقة للغرب تدعوه إلى أن ينفض يديه من المعارضات التي تمتلك الجرأة كي تعود على ظهور ‏الدبابات.‏

‏2 – العرض الإخواني بـ"التوبة" السياسية والعودة إلى صفوف النظام نابع من الإحساس بالفشل وانسداد ‏الأفق، فهذه الحركة ومثيلاتها حولوا الإسلام إلى مجموعة من الشعارات السياسية في حربهم مع الأنظمة، ‏وأفرغوه من دلالاته الروحية والفكرية وشموليته..‏

إن إعلان جماعة البيانولي العودة إلى النظام غير المتحمس لهذه الخطوة هو نعي رسمي لتيار الإسلام ‏السياسي الذي غرق منذ ستينات القرن الماضي في المواجهات مع الأنظمة ومع التيارات السياسية المختلفة ‏معه أيديولوجية، وطيلة نصف قرن لم يترك لنفسه ولمريديه من تراث غير تجارب السجون وأكوام من ‏البيانات ومشاريع الانقلابات..‏

مع الإشارة إلى أن "هذه الثورية" اكتسبها الإسلام السياسي من خلال احتكاكه باليسار العربي، وهي مناقضة ‏لطبيعة التراث الفكري الإسلامي الذي يدعو إلى الإقناع والمحاورة والإصلاح والتغيير الهادئ "والحكمة ‏والموعظة الحسنة" ..‏

وهناك أصوات كثيرة في دائرة الفضاء الإسلامي تطالب الحركات والتنظيمات السرية والعلنية بوقف ‏الانزلاق إلى هذه الثورية لأنها أضرت بالإسلام كنموذج تعايش مدني والعودة إلى روحه ومقاصده الداعية ‏إلى البناء لا الهدم، والتسامح لا التشدد، والحوار لا الإرهاب.‏

وواضح أن خطوة "إخوان سوريا" ستمثّل مدخلا لـ"توبة" جماعية لأغلب التيارات التي وجدت نفسها على ‏هامش شعوبها ورقة في أيدي قوى أجنبية تزايد بها وتصفي عبرها الحساب، وخاصة ظاهرة "الإسلام ‏السياسي" التي أصبحت مدرسة لتخريج الانتحاريين والهاربين من الحياة.‏

وتستدل هذه الأصوات بما جرى مع بعض تعبيرات اليسار العربي التي اختارت بعد قراءة موضوعية ‏لأسباب سقوط الكتلة الشرقية أن تترك خيار المواجهة المفتوحة مع الأنظمة وميراث السجون والاغتيالات.‏

ليس عيبا أن يجري تيار من تياراتنا نقدا ذاتيا ومراجعات تطال الأصول والفروع، وينحاز للمستقبل، لكن ‏العيب أن يقدم التنازلات دون مراجعة فكرية وفقهية، ما يعني أنه يسمح لنفسه بالعودة مرة أخرى إلى خيار ‏الرفض للرفض.‏

إن مراجعات "إخوان سوريا" ما ينبغي أن تقف عند حد الموقف من النظام، أو عند تذكّر القضايا القومية ‏وإغفال النضال من أجل التغيير من الداخل، فهذه شطحة لا شك أن المتعاطفين معها ما زالوا عاجزين عن ‏استيعابها والبحث لها عن مسوغات سياسية وتنظيمية..‏

المراجعات الحقيقية تذهب إلى تقويم التجربة ككل؛ من حمل السلاح إلى الجلوس مع أطراف وشخصيات ‏تضع الأيادي مع جهات مشبوهة، فضلا عن تغليب السياسي وتحويل المشروع "الحضاري" إلى لعبة مرنة ‏تعبّد الطريق لحلم الوصول إلى السلطة.‏

وبالتأكيد، فإن المراجعات التي لا تسبقها الأسئلة ولا تخلخل الثوابت، تظل مراجعات لفظية تؤجّل اللحظة ‏الحاسمة التي تسمح لـ"الإخوان" إما بالتحول إلى أطراف فاعلة في مجتمعاتهم، أو الانكفاء والاكتفاء بدور ‏الهامش والتمتّع بلعبة الدخول والخروج من السجون..‏

ومن الأسئلة المهمة التي يجب أن يطرحها هؤلاء هي: لماذا فشل الإخوان طيلة أكثر من نصف قرن في أن ‏يكونوا طرفا فاعلا في البناء والتشييد، وظلوا دائما طرفا يشد إلى المواجهة‎ ‎‏ باختيار منهم أو مدفوعين ‏دفعا؟

‏3 – ليس أمام هذه الحركات من سبيل للاستمرار سوى مراجعة نوعية تعيد لها هويتها كتعبيرة إسلامية ‏تؤمن بالنصح والتغيير المدني الهادئ.. ‏

وهناك دعوات تتجدد مع كل مناسبة مثل هذه التي وفرتها "التوبة" التي أعلن عنها "إخوان سوريا" تطالب ‏‏"الإخوان" بأن يدربوا أنفسهم على اختيار خط واحد لأنفسهم، إما أن يكونوا تعبيرات دعوية صوفية صرف، ‏أو تعبيرات فكرية، أو تعبيرات سياسية، فلا يمكن ممارسة السياسة بمراوحاتها وشطحاتها والتمسك ‏بـ"الطهر" الديني، ليس أمام هؤلاء إلا التحول إلى حركات مدنية تقطع مع المتاجرة بالفتاوى وتبحث عن ‏المشاركة الفعلية في جهود التطوير ببلدانها.‏

ومن الأسئلة المهمة التي ما يجب أن تظل معلقة؛ حركات الإسلام السياسي العربية تواجه حروبا حامية ‏تستهدف وجودها ولم تطرح السؤال يوما: لماذا كل هذا؟

لماذا يتم التعامل مع الطيف السياسي الباقي بأسلوب أكثر ليونة وتفهما وغضا للطرف؟
هل هي كراهية للإسلام، مع أن أغلب الأنظمة العربية تبني المساجد وتؤمها وتحيي المناسبات الدينية ‏وتحج وتصوم وتخص الأئمة والقائمين على المساجد والكليات والمعاهد الدينية باهتمام بالغ وتتنافس ‏لإظهار أسلمتها عبر العطف على الفقراء واحتضان وفود المشايخ العابرين للفضائيات وإقامة الندوات ‏الدينية والإنفاق عليها بسخاء؟

الإجابة لا تحتاج إلى كثير عناء، فهذه الحركات تنافس الدولة على صلاحياتها، وبما أن الحاكم العربي ‏امتزج بالدولة وصارت صوته وسوطه، فإن المواجهة تكون حامية بين طرفين يريد كل منهما أن يفتك دور ‏الدولة بما هي ضامن للتعدد الديني والفكري وحريات الأشخاص.‏

ومثلما تطالب تلك الحركات الأنظمة بأن ترفع أيديها عن الدين وتكف عن المتاجرة به، من الطبيعي أن ‏تطالبها الأنظمة ويطالبها الناس بأن تُنهي متاجرتها بالدين وتلتفت إلى السياسة التي تريد امتهانها، فالدين ‏مشترك وطني لا يمكن أن يستأثر به أحد، وإلا لمَ يحتجون على الأنظمة ويتهمونها بالاستئثار بالأوطان إذا ‏كانوا يجيزون الاستئثار بأحد أركان المشترك "الأديان".‏

وحتى لا نغرق في التجريد، فإن تيارات الإسلام السياسي، سواء المتوارية في الغرب التي امتهنت الشتيمة ‏والتجسس على أسرار الأنظمة، أو التي استمرأت لعبة السجون في الداخل متوهمة أنها تحرج الأنظمة ‏وتقض مضاجعها، هذه التيارات أمامها فرصة حقيقية اجترحها "إخوان سوريا"، وهي التصالح مع بلدانها ‏وشعوبها ووضع نقطة النهاية لتلك الهرولة المحمومة نحو السلطة بكل الأشكال والأساليب بما في ذلك ‏تمريغ قداسة الديني بدنس السياسي.‏

أغلب الدساتير العربية تفتح الباب أمام الانتظام السياسي وتكوين الأحزاب وتضع لذلك قوانين تفصيلية من ‏بينها منع تشكيل الأحزاب على أساس ديني، أو مذهبي طائفي، أو قومي، أو طبقي، وهي قوانين تقوم على ‏مبررات مشروعة إذا أخذنا بالاعتبار ما يجري في العراق ولبنان واليمن والأراضي الفلسطينية.‏

في هذه البلدان تحول الديني/ المذهبي/ الطائفي إلى عامل تفرقة وصدام وقتل عبثي، وهناك مؤشرات على ‏كمون فوضى طائفية أخرى بدأت تُطل برأسها في بلدان مثل البحرين والسعودية ومصر.‏

لقد مر على "تسييس" الدين مع المرشد الأول للظاهرة الإخوانية حسن البنا 85 عاما، لم يحقق فيها ‏الإخوان شيئا لأنفسهم ولدولهم وأمتهم، أفلم يحن الوقت بعد ليعيدوا قراءة تجاربهم ويصوّبوا أهدافهم ‏ويغيّروا أساليبهم..‏

وهناك اقتناع داخل تيار واسع من هذه الحركات بأن فشل "تسييس" الدين صارا أمرا مقضيا ولا تفيد معه ‏مماطلة أو تسويف، وأن طريق النجاة هو التحول إلى حركات مدنية تبحث لنفسها عن هوية سياسية من ‏داخل فضاء الفكر الإنساني القابل للنقد والنقض، والتصويب والتطوير، والذي يؤمن بالحق في الخطأ ‏والاختلاف ولا يستطيع حزب أو تنظيم أن يُسكت الخصوم بأن يسحب من جرابه حكما فقهيا يكفّر أو يهدر ‏الدم، أو يُحرض شبانا مراهقين، أو فاشلين يائسين من الحياة فيقدمون على الانتحار بشكل عبثي فيقتلون ‏بعض أهلهم وذويهم بزعم "الجهاد".‏

إن انتفاء مبررات القتل العبثي للنفس أو للآخرين، والإيمان بنسبية الفكر السياسي بعد التحول إلى حركات ‏مدنية سيجعل، ولا شك، إيمان "الإخوان" بمختلف تعبيراتهم وتلويناتهم، بالديمقراطية والتعددية أمرا ممكنا ‏ويُسكت في وجههم الأصوات المتعالية من كل اتجاه تشكك في التزامهم وكونهم يتخذون المقولات الحقوقية ‏والقيم الإنسانية مطية للوصول إلى السلطة ثم يديرون لها الظهر ويعمدون إلى تصفية الحساب مع الفرقاء ‏حتى من داخل الفضاء الإسلامي نفسه.‏

الزخم الروحي لدى حركات الإسلام السياسي، والإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة أمامها الآن ‏فرصة لأن تتحول إلى جهد فاعل في خدمة التنمية التي هي الهدف الاستراتيجي للأمة، فبدون تنمية لن ‏يتحول الفضاء العربي الإسلامي إلى قطب ينال احترام الكبار، ولن يتحقق للأمة حلمها في استعادة أراضيها ‏المحتلة بما فيها القدس..‏

إن "توبة" إخوان سوريا وانفتاحهم على النظام، تحتاج إلى مراجعات حقيقية تدعمها حتى تكون قدوة وسبيلا ‏للتيارات الشبيهة التي تقف مترددة بين أن تمد اليد لأنظمتها وتكف عن المكابرة، وبين أن تواصل "حلمها" ‏بتغيير هلامي لم يتحقق منه شيء منذ 85 عاما، وقد لا يتحقق أبدا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق